بِسۡمِ ٱللهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِۗ وَٱلَّذِىٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَڪۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ (١) ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَٲتِ بِغَيۡرِ عَمَدٍ۬ تَرَوۡنَہَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلٌّ۬ يَجۡرِى لِأَجَلٍ۬ مُّسَمًّ۬ىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأَيَـٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيہَا رَوَٲسِىَ وَأَنۡہَـٰرً۬اۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٲتِ جَعَلَ فِيہَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِى ٱلَّيۡلَ ٱلنَّہَارَۚ إِنَّ فِى ذَٲلِكَ لَأَيَـٰتٍ۬ لِّقَوۡمٍ۬ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِى ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٌ۬ مُّتَجَـٰوِرَٲتٌ۬ وَجَنَّـٰتٌ۬ مِّنۡ أَعۡنَـٰبٍ۬ وَزَرۡعٌ۬ وَنَخِيلٌ۬ صِنۡوَانٌ۬ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٍ۬ يُسۡقَىٰ بِمَآءٍ۬ وَٲحِدٍ۬ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَہَا عَلَىٰ بَعۡضٍ۬ فِى ٱلۡأُڪُلِۚ إِنَّ فِى ذَٲلِكَ لَأَيَـٰتٍ۬ لِّقَوۡمٍ۬ يَعۡقِلُونَ (٤) ۞ وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبٌ۬ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَٲبًا أَءِنَّا لَفِى خَلۡقٍ۬ جَدِيدٍۗ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّہِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ ٱلۡأَغۡلَـٰلُ فِىٓ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيہَا خَـٰلِدُونَ (٥) وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِ وَقَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِمُ ٱلۡمَثُلَـٰتُۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةٍ۬ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلۡمِهِمۡۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (٦)
- { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ }
وصف الله كتابه الكريم بالعديد من الصفات فقال عنه الآتى :
- {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}
- و { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
- و{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً }
- و{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا }.
(2-4) يأخذنا القرآن فى هذه الآيات فى رحلة للفكر فيجعل أبصارنا تتجه
- تارة للسماوات {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ},
- ثم يأخذ أبصارنا مرة أخرى لكى تنظر أمامها فى الأرض {مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا},
- ثم يوجه أبصارنا لتنظر الى النباتات والزروع و الثمار كيف تنمو {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ }
وكأن لسان حال الآية يقول أسأل الشجر وأسال الزرع و الثمر واسأل الشمس و القمر من خلقهم ؟
- و يحرك القرآن أبصارنا فى كل إتجاه لنرى جمال الله وندرك عظمته تلك العظمة التى تكلم بها خلقه عبر العصور. و كلمات الله فى الخلق يستطيع الجميع أن يقرأها مهما إختلفت عقائدهم وأديانهم, فهى كلمات من نور يقرؤها الجميع مهما إختلفت لغاتهم.
(5) { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } بعد أن سرد لنا القرآن كل هذه الآيات الكونية الدالة على وجود الله و قدرته التى ليس لها حدود يتعجب القرآن من هؤلاء الذين يشكون فى البعث و ما أسهله على الله و هو الذى خلقنا أول مرة { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ۚ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }.
و معنى كلمة {وَأُولَٰئِكَ} فى قوله تعالى {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} أى هؤلاء فقط، ولذلك يرى البعض أن أهل الديانات الآخرى لا ينبغى وصفهم أونعتهم بالكفر إن كانوا يؤمنون بيوم الحساب :{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }.
{وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، ذكرعذاب جهنم قد يكون خبرياً أو إنشائياً أى مجازى فاللغة العربية مليئة بالإستعارات و التشبيهات والكنايات وهى لغة سخية و غنية, وقد ذكر الله تعالى فى كتابه الكريم أن الآيات التى تتحدث عن العذاب هى لتخويف عباده كى لا يرتكبوا الجرائم :{لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ۚ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ }.
والآمر فى النهايه لله بالنسبة لحساب البشر فهو صاحب القرار الأول و الأخير فى محاسبة الناس لأنه مالك يوم الدين، ونذكر هنا قوله تعالى فى وصف عذاب يوم القيامة فى جهنم :
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، ولذلك فقد تلت الآيات التى تتكلم عن العذاب آيات أخرى تتكلم عن مغفرة الله فالآية السادسة فى نفس السورة تقول {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ}، وهنا نرى “المثانى” القرآنية فآية عقاب تتلوها آية مغفرة لنتعلم أن الأمر كله بيد الله سواء شاء أن يعذب أو شاء أن يغفر فهى مشيئته فكما قال لرسوله الكريم :{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }.
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٌ۬ مِّن رَّبِّهِۦۤۗ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ۬ۖ وَلِكُلِّ قَوۡمٍ هَادٍ (٧) ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ ڪُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۖ وَڪُلُّ شَىۡءٍ عِندَهُ ۥ بِمِقۡدَارٍ (٨) عَـٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّہَـٰدَةِ ٱلۡڪَبِيرُ ٱلۡمُتَعَالِ (٩) سَوَآءٌ۬ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّيۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّہَارِ (١٠) لَهُ ۥ مُعَقِّبَـٰتٌ۬ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُ ۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِہِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٍ۬ سُوٓءً۬ا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ (١١) هُوَ ٱلَّذِى يُرِيڪُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفً۬ا وَطَمَعً۬ا وَيُنشِئُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَـٰٓٮِٕكَةُ مِنۡ خِيفَتِهِۦ وَيُرۡسِلُ ٱلصَّوَٲعِقَ فَيُصِيبُ بِہَا مَن يَشَآءُ وَهُمۡ يُجَـٰدِلُونَ فِى ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلۡمِحَالِ (١٣) لَهُ ۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۖ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىۡءٍ إِلَّا كَبَـٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَـٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَآءُ ٱلۡكَـٰفِرِينَ إِلَّا فِى ضَلَـٰلٍ۬ (١٤) وَلِلَّهِ يَسۡجُدُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعً۬ا وَكَرۡهً۬ا وَظِلَـٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأَصَالِ ۩ (١٥) قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦۤ أَوۡلِيَآءَ لَا يَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعً۬ا وَلَا ضَرًّ۬اۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِى ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِى ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُۗ أَمۡ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَـٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ عَلَيۡہِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلِّ شَىۡءٍ۬ وَهُوَ ٱلۡوَٲحِدُ ٱلۡقَهَّـٰرُ (١٦) أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً۬ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدً۬ا رَّابِيً۬اۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِى ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَـٰعٍ۬ زَبَدٌ۬ مِّثۡلُهُ ۥۚ كَذَٲلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَـٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءً۬ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِى ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٲلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ (١٧) لِلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّہِمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُ ۥ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِى ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعً۬ا وَمِثۡلَهُ ۥ مَعَهُ ۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦۤۚ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَٮٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (١٨) ۞ أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ (١٩)
(7-10) ينتقل القرأن بنا فى هذه الآيات الى مرحلة جديدة فى الفكر البشرى فقد كان الناس فى الماضى ينتظرون من الأنبياء كسر قوانين الطبيعة لكى يؤمنوا بالله فجاء القرآن ليقول لهم أن هذه المرحلة قد ولت و مضت وأن الآيات الحقيقية لله ليست فى كسر قوانين الطبيعة بل فى قوانين الطبيعة نفسها والتى نراها فى الخلق حولنا،
فها هم يطلبون آية من محمد :
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ}
فيأتيه الرد الإلهى ليقول له {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }
أى لكل زمان أسلوب فى هداية الناس قد يختلف عن الأزمنة الآخرى, ثم ينتقل القرآن فى التو واللحظة الى آيات الله ومعجزاته الحقيقية فيقول له :{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ }.
وهنا نرى كيف انتقل القرآن وإرتقى بالعقل البشرى من مرحلة إنتظار كسر قوانين الطبيعة للبرهنة على وجود الله الى مرحلة إثبات وجود الله من خلال النظر والتأمل فى قوانين الطبيعة نفسها.
(13) {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } بعد أن سرد القرآن لنا آيات ٍ تتكلم عن الخلق والأرحام والبرد والرعد فأثبت وجوده بالعقل والتفكر والحجة كان التساؤل كيف يجادل أحد فى وجود الله بعد ذلك؟، وتذكرنا هذه الآية بقوله جل وعلا {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. فقد خلق الله الخلق وجعل لنا السمع والأبصار و الأفئدة لنتفكر فى خلقه ونتأمل فى ملكوته فنعرفه و نقترب منه.
(14) {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} يتحدث هنا القرآن عن أصنام مكة التى عبدها الناس من دون الله و قت نزول القرآن.
(15) {يَسْجُدُ} أى أن الوجود كله خاضع لله تعالى المهيمن على كل شئ من الذرة الى المجرات و من النبتة الى الغابات ومن قطرة الماء الى المحيطات, فالكل خاضع خضوعاً مطلقاً أو بمعنى آخر ساجد لقوانينه الطبيعية مثل قوانين الجاذبية والكهرباء والطاقة وغيرها، والآية تدل على أن السجود ليس بالضرورة من خلال حركات جسدية كما يظن البعض و يؤكد ذلك المعنى أيضاً قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ }.
(16) {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} والله إنه لأعجب تساؤل ، فالله تعالى يسأل – و هو الأعلم بالإجابة – إن كان هناك أحد خلق كخلقه فأصبح هناك مجال للشك فيمن هو الخالق، فهل خلق أحد غير الله شيئاً من العدم؟ وهل نفخ الروح فأوجد الحياة أحد سواه؟
(17) أعقب التساؤل السابق :{ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } تأملات رائعة فى خلق الرحمن ليكون ذلك أبلغ رد على هذا السؤال، فقال سبحانه و تعالى {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} ثم أعقب الله ذلك بقوله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}، “الزبد” هو فقاقيع لحظية لا قيمة لها تأتى مع الأمواج وتختفى فى ثوان معدودة، ولذلك علينا حين نحكم على الأشياء أن يكون تقييمنا مبنياً على مدى منفعتها للبشر، فإن قام أحد بعمل جهاز يساعد العميان على الرؤية أو يساعد الصم على السمع أو البكم على الكلام أو العاجزين على الحركة فقد قام بعمل نافع للبشرية ومبارك من عند الله تعالى، و إن أستحدث إنسان وسيلة لتحسين طرق زراعة الزروع والثمار لإطعام البشر ومحاربة الجوع فقد فعل خيراً عند الله تعالى لأنه عمل ينفع الناس، فالعبرة فى الحكم على الأشياء هو هل تنفع الناس والبشرية أم لا؟.
ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ ٱلۡمِيثَـٰقَ (٢٠) وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن يُوصَلَ وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّہُمۡ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلۡحِسَابِ (٢١) وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّہِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ سِرًّ۬ا وَعَلَانِيَةً۬ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ (٢٢) جَنَّـٰتُ عَدۡنٍ۬ يَدۡخُلُونَہَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآٮِٕہِمۡ وَأَزۡوَٲجِهِمۡ وَذُرِّيَّـٰتِہِمۡۖ وَٱلۡمَلَـٰٓٮِٕكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡہِم مِّن كُلِّ بَابٍ۬ (٢٣) سَلَـٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ (٢٤) وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَـٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِى ٱلۡأَرۡضِۙ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّارِ (٢٥) ٱللَّهُ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ وَفَرِحُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِى ٱلۡأَخِرَةِ إِلَّا مَتَـٰعٌ۬ (٢٦)
(20) {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} الوفاء بالعهود و المواثيق هو صفة ضرورية لكل إنسان وهو من أسس الإيمان، والوفاء بالعهد والوعد والميثاق ورد ذكره فى أكثر من آية أخرى فى كتاب الله فيقول تعالى {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} ويقول {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} و {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}، والوفاء بالعهد و الميثاق هو لله تعالى وعلينا الإلتزام به، و يعلمنا الله تعالى أنه فضّل إحترام العهد والميثاق على نصرة المؤمنين , فإذا تعارضت نصرة المسلمين المحتاجين للمساعدة مع إحترام العهد والميثاق فإن إحترام المواثيق مقدم على نصرة المؤمنين فى هذه الحالة كما نرى فى الآية الكريمة التالية {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ }.
(20-24) يتحدث القرآن الكريم فى هذه الآيات بصورة رائعة عن صفات أهل الجنة ونذكر منها :
الصفة الآولى : {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ}.
الصفة الثانية : {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} مثل صلة الرحم.
الصفة الثالثة : {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} فيسارعون فى عمل الخيرات.
الصفة الرابعة : {الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} فهم يفعلون الخير ويصبرون على الإبتلاء ليس طمعاً فى شئ مادى لكن بهدف أعلى وأسمى وهو إرضاء الله و إبتغاء وجهه.
الصفة الخامسة : وأقاموا الصلاة أى على صله دائمة مع المولى عز وجل فلا ينقطع ذكره من عقولهم {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}.
الصفة السادسة : {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أى أنهم يردون على من يسئ إليهم بالإحسان فهم لا يطفئون الشر بالشر بل يطفئوه بالخير والمحبة والإحسان إتباعاً لقوله تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } و قوله تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}.
(25) إنتقل القرآن بنا فى هذه الآية ليعرض لنا الصفات التى قد تودى بالإنسان الى جهنم.
الصفة الاولى : أن ينقض الإنسان العهد الذى أخذه على نفسه و ميثاقه مع الآخرين.
الصفةالثانية : من يقطع صلة الرحم و أواصر المحبة بين البشر.
الصفة الثالثة : من يفسد فى الارض مثل من يقطع الطرق ويحرق المنشئات و يروع الآمنين فكل هؤلاء كما ذكرا القرآن يحق عليهم قول الله {أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٌ۬ مِّن رَّبِّهِۦۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَہۡدِىٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ (٢٧) ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَٮِٕنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِڪۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَٮِٕنُّ ٱلۡقُلُوبُ (٢٨) ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَـَٔابٍ۬ (٢٩) كَذَٲلِكَ أَرۡسَلۡنَـٰكَ فِىٓ أُمَّةٍ۬ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَآ أُمَمٌ۬ لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡہِمُ ٱلَّذِىٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَـٰنِۚ قُلۡ هُوَ رَبِّى لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيۡهِ تَوَڪَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ (٣٠) وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانً۬ا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعً۬اۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُہُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبً۬ا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِىَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ (٣١) وَلَقَدِ ٱسۡتُہۡزِئَ بِرُسُلٍ۬ مِّن قَبۡلِكَ فَأَمۡلَيۡتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذۡتُہُمۡۖ فَكَيۡفَ ڪَانَ عِقَابِ (٣٢)
(27) يتكرر التساؤل القرآنى لمرة ثانية {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} وفى المرة الأولى فى آية (7) من نفس السورة يأتى الرد القرآنى فيها {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ * اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} ليرتقى بالعقل البشرى الى إدراك أن قوانين الطبيعة نفسها وليس كسرها هو الآيات الحقيقية, وفى المرة الثانية أى فى هذ الآية يرد القرآن على نفس التساؤل بقوله {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أى أن الله يضل من إختار طريق الضلال ويهدى من إختار طريق الهدى، فالله تعالى لا يجبر أحداً على الإختيار وقد وهب البشر حق الإختيار بين طريق الخير و طريق الشر {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وأعطى الله للإنسان الحق المطلق أن يختارالطريق الذى يشاؤه سواء كان طريق الخير والمحبة أو طريق الشر والكراهية.
(28) إن القلب المطمئن بذكر الله هو قلب لا يظلم, قلب لا يكره, وقلب لا يفترى على أحد, هو قلب مملوء بالمحبة و نور الله فيمشى صاحبه بين الناس جميعاً مهما أختلفت أفكارهم وعقائدهم كنور ومبعث للرحمة والتسامح مع جميع البشر وبذلك يكون إنساناً ربانياً {وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} كما أمرنا القرآن أن نكون.
(30) {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ} لم يأمر الله نبيه أن يكره هؤلاء لأنهم يكفرون بالرحمن كما ذكرت الآية ولم يأمره أن يحاسبهم لأنهم لا يؤمنون به بل أمره أن يقول لهم {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}، وتكرر هذا المعنى فى أواخر هذه السورة فأمر الله تعالى نبيه حينما يقول له الذين كفروا {لَسْتَ مُرْسَلًا} أن يرد عليهم بقوله {قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}، وهذا الرد القرآنى يؤكد مرة أخرى أن القرآن الكريم لا يأمر أتباعه بإجبار الناس على الدين أو إكراههم على الفكر أو إستخدام العنف لإعلاء الكلمة، فمن رفض قبول الدين أو الإقتناع به و كذبه فقد علمنا القرآن فى شخص الرسول كيف يكون الرد على ذلك {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} و {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}.
(31) {تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} أى تصيبهم كارثة لأنهم عذبوا المؤمنين الأوائل و إضطهدوهم و حاربوهم لأجل دينهم.
(32) {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} يضرب لنا القرآن الكثير من الأمثلة عن كيف كان الأقوام السابقون يسخرون من رسل الله فعلى سبيل المثال قال فرعون لموسى {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسْحُورًا}, و قالوا لشعيب {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}, وقالوا لمحمد {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}، وعلينا أن نتعلم من هذا أن الإستهزاء بالآخرين هو خطيئة عظيمة فعلينا نحن أيضا ألا نقع فى هذا الخطأ و نستهزىء بكل فكر يخالفنا فقد يكون هو الحق.
أَفَمَنۡ هُوَ قَآٮِٕمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُ ۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِى ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَـٰهِرٍ۬ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ ۥ مِنۡ هَادٍ۬ (٣٣) لَّهُمۡ عَذَابٌ۬ فِى ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأَخِرَةِ أَشَقُّۖ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ۬ (٣٤)
(33-34) {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} مثل عبادة اللآت و العُزى و مناة التى كان يعبدها مشركو مكة {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ} والمشكلة الحقيقية التى كانت بين المسلمين الآوائل وكفار مكة ليست لأنهم عبدوا أوثاناً أم لا فالمبدأ القرآنى ثابت لا يتغير {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ولكن فى أنهم أعلنوا القتال على المؤمنين الأوائل لأجل دينهم وطردوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم فكان الإذن لهم بالقتال فقط للدفاع عن النفس {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ }.
۞ مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ تَجۡرِى مِن تَحۡتِہَا ٱلۡأَنۡہَـٰرُۖ أُڪُلُهَا دَآٮِٕمٌ۬ وَظِلُّهَاۚ تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْۖ وَّعُقۡبَى ٱلۡكَـٰفِرِينَ ٱلنَّارُ (٣٥) وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن يُنكِرُ بَعۡضَهُ ۥۚ قُلۡ إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦۤۚ إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مَـَٔابِ (٣٦) وَكَذَٲلِكَ أَنزَلۡنَـٰهُ حُكۡمًا عَرَبِيًّ۬اۚ وَلَٮِٕنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَمَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّ۬ وَلَا وَاقٍ۬ (٣٧) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلاً۬ مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَٲجً۬ا وَذُرِّيَّةً۬ۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِىَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلٍ۬ ڪِتَابٌ۬ (٣٨) يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُ ۥۤ أُمُّ ٱلۡڪِتَـٰبِ (٣٩)
(35) {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} يقول الله تعالى {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} فحقيقة الجنة وما فيها لا يعلمه إلا الله {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }، وذلك يعنى أنه لا أحد يعرف ولا يدرك روعة و حقيقة الجنة وما فيها، وأعظم جزاء للإنسان هو أن ينال رضوان الله {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}.
(37) {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ (أى يا محمد) أَهْوَاءَهُم (أى أهواء كفار مكة و مشركيها)}.
(38) { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} سأل كفار مكة الرسول أكثر من مرة أن يأتيهم بآية يخرق بها قوانين الطبيعة فقالوا له {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ} وكان الرد الإلهى للرسول هو أن يقول لهم {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا}، فالقرآن أقر مبدءاً هاماً هو أن قوانين الطبيعة نفسها – و ليس كسرها – هى الآيات الحقيقية للخالق كما ذكر فى أوائل هذه السورة { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } تعنى ان كل شئ يتم بميقات.
وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِى نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَـٰغُ وَعَلَيۡنَا ٱلۡحِسَابُ (٤٠) أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِى ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُہَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ وَٱللَّهُ يَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ (٤١) وَقَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَلِلَّهِ ٱلۡمَكۡرُ جَمِيعً۬اۖ يَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ۬ۗ وَسَيَعۡلَمُ ٱلۡكُفَّـٰرُ لِمَنۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلاً۬ۚ قُلۡ ڪَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِى وَبَيۡنَڪُمۡ وَمَنۡ عِندَهُ ۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَـٰبِ (٤٣)
(40) {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} تضع هذه الآية الكريمة واحداً من أهم و أعظم مبادئ القرآن ألا وهو عدم أحقية البشر فى حساب الآخرين فحساب البشر حق لله وحده لا يشاركه فيه أحد، ونلاحظ أن الآية تستخدم ” إنما ” وهو أسلوب قصر وإستثناء وهو تعبير لغوى يعنى أن الرسول لا وظيفة له إلا البلاغ، ويعنى قوله {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} أن الله وحده و لا أحد سواه هو وحده صاحب الحق فى حساب البشر والحكم عليهم.
فما بالنا نرى أناساً فى هذا العصر يتحدون القرآن يستهزؤن بآياته فينصبون أنفسهم فى مصاف الله و يعطون لأنفسهم الحق فى حساب غيرهم من البشر متهمين إياهم تارة بالكفر والزندقة وتارة بالفسق و الفساد والفجور وغيرها من الألفاظ التى لا تدل على شئ إلا أنهم وضعوا أنفسهم مكان الخالق وأعطوا لأنفسهم حقاً لم يعطه الله للرسول نفسه ، ألا و هو حساب غيرهم من البشر أو الحكم عليهم، وهؤلاء الذين نصبوا أنفسهم ألهة يحاسبون غيرهم من البشر ويطلقون الأحكام عليهم هم فى الحقيقة مشركون لأنهم ينازعون الله فى واحدة ٍ من أهم صفاته وخصائصه ألا وهى حق حساب البشر، فإن رأينا عملاً نعرف أنه سئ فمن حقنا أن نعتبره سيئاً و لكن ليس من حقنا أن نؤكد يقينياً أن فاعله سيدخل النار أو الجنة لأن فاعله قد يتوب, ولأن الله قد يقرر أن يغفر له لسبب ما فى علمه, و أيضاً لعدم قدرتنا على معرفة الظروف التى دفعته لهذا الفعل ولذا فعلينا دائماً أن نتذكر قوله تعالى {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، قد أيدت الآيتين التاليتين (41-42)هذا المبدأ الهام بقوله تعالى {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} –آية (41) – و الآية {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} آية (42) – فإن كان الله وحده هو يعلم ما تكسب كل نفس فمن هو هذا الذى يدعىّ أنه مثل الله {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} فيعطى بذلك لنفسه الحق فى حساب الآخرين.
(43) لم يأمر الله رسوله الكريم أن يرد بالعنف على من ينكر رسالته فها هو الرد القرآنى للرسول على الذين يقولون له {لَسْتَ مُرْسَلًا} هو أن يقول لهم {كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وذلك يتفق تماماً مع موقف القرآن الواضح فى كيفية الرد على من كذب الرسول كما فى الآيات التالية {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}, و{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ }.