بِسۡمِ ٱللهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَہِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّى ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ (١) يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓٮِٕرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّہۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡىَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓٮِٕدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلاً۬ مِّن رَّبِّہِمۡ وَرِضۡوَٲنً۬اۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوڪُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٲنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (٢)
تتحدث سورة المائدة عن مواقف كثيرة حدثت فى عهد النبوة بين البعض من أهل الكتاب وبين المؤمنين الأوائل وحتى لا نفهم هذه الآيات بصورة خاطئة أونخرجها عن سياقها أويتم تعميمها على كل أهل الكتاب بدلاً من تخصيصها فى الموقف الذى يتحدث عنه القرآن لابد من فهمها فى ضوء هذه المبادئ القرآنية العليا : أن الله تعالى لا ينهى عن موالاة أحد (أى معاملته كصديق حميم) إلا فى الحالات المبينة فى سورة الممتحنة :{ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
- أن القرآن يرفض بصورة قاطعة تحميل ذنب الآباء على الأبناء فلا يقبل الله أن نحاسب أحداً فى عصرنا الحالى عن أمور حدثت فى بدء الدعوة الإسلامية أوعصور سابقة لها {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}.
- أن أهل الكتاب كما قال القرآن {لَيْسُوا سَوَاءً} فمنهم الصالح ومنهم دون ذلك أى أن الآيات المذكورة فى البعض من أهل الكتاب فى الجزيرة العربية وقت نزول القرآن ونتيجة لأسباب خاصة لا يجوز تعميمها على الجميع فكما قال القرآن {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ}.
- أن بعض الصراعات التاريخية بين البعض من أهل الكتاب وبين الرسول لا تلغى المبدأ القرآنى العام :
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
فإيذاء مشاعرالآخرين أوإهانتهم غير مقبول عند الله تعالى.
- علينا ملاحظة أن إستخدام أدوات التعريف “ال” و”الذين” و”اللاتى” يخصص المعنى فى مجموعة بعينها لوأراد القرآن تعميم المعنى لأستخدم “من” . فبرجاء ملاحظة إستخدام أدوات التعريف و التخصيص فى بداية الكلمات حتى يتم فهم المقصود من الآية بصورة صحيحة.
- أن إستخدام ضمير الغائب “هم” مثل فى {وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ} و{وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} و{هم الَّذِينَ قَالُوا} يعود على مجموعة محددة فى القرآن فى وقت نزوله.
ولايجوز لنا أخذ الآيات خارج سياقها و تعميمها على أناس آخرين بعد أن خصصها القرآن فى فئات بعينها.
- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} تقر هذه الآية الكريمة مبدءاً هاماً ألا وهو الوفاء بالعقود وإحترامها وهذا المبدأ يتفق مع الإتجاه القرآنى فى إحترام الإنسان لإتفاقاته و معاهداته وعقوده مع الآخرين أياً كان دينهم أوفكرهم أومعتقداتهم فالآية أقرت بالوفاء بالعقود بصورة عامة وواضحة، وذكرالله تعالى مادحاً إسماعيل عليه السلام :
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا }.
وأمرالله تعالى عباده بإحترام عهودهم {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}.
ونؤكد أن إحترام الوعد والعهد والعقد ينبغى أن يكون مع أى إنسان بصرف النظرعن دينه أوفكره فالقرآن لم يقصر المعنى التعامل فقط مع المسلمين بل أطلقه ليجعله صفة للإنسان المؤمن فى تعامله مع الآخرين، وتقر الآية أيضاً مبدأ إحترام الحياة فى كل صورها حتى حياة الحيوان فى الأشهر الحرم فقالت {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} فحرمت الآية الصيد فى وقت الإحرام لكى يتعلم الإنسان إحترام وتقديس الحياة فى جميع صورها.
- { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ ( أى كراهية) قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا } يقرر هنا القرآن الكريم مرة أخرى مبدأ إحترام النفس البشرية فلو صدّ أومنع أُناسٌ أوقومٌ ما المؤمنين من زيارة أكثر المساجد قدسية عندهم وهو المسجد الحرام فلا يبيح ولا يجيز ذلك الإعتداء عليهم لأن الإعتداء على نفس بشرية ولو واحدة أو إزهاق روح إنسان هو أهم بكثيرعند الله من أداء صلاة فى المسجد الحرام فالصلاة تجوز فى كل مكان {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }, ولكن قتل النفس البشرية جريمة شنعاء :
{أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا }.
و إذا كان هذا هو الحال مع المسجد الحرام أى تحريم الإعتداء حتى لو مُنع المسلمون من أداء الصلاة فيه فكيف يكون الحال مع المساجد الآخرى؟ والتى هى أقل قدسية من المسجد الحرام، وخلاصة القول أن كراهية من صد عن أو منع الصلاة فى مسجد ما لاتبيح للمسلم الإعتداء على من فعل ذلك، و قد أقرالقرآن فى هذه الآيات أيضاً مبدأ التعاون مع جميع البشر فى عمل الخيرات فقال {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}. ومن الأشياء الجميلة أن نرى الجميع سواءاً كانوا مسلمين أومسيحين أو يهوداً أوغيرهم يتعاونون فى عمل الخير مثل إكرام اليتيم و إطعام المسكين والعطف على المستضعفين فى الأرض، والآية الكريمة توضح أيضاً أن الله تعالى لم يحرم علينا فقط الإعتداء على الآخرين بل حرم أيضاً التعاون على ذلك، والتعاون مع المعتدى قد يكون مادياً بإعطائه دعماً مادياً أوغيره وقد يكون غير مادي ٍ بتشجيعه على الإعتداء أو بالسكوت عليه، لأجل ذلك ينبغى على المسلم الحقيقى أن يتخذ موقفاً واضحاً ضد المعتدين والإرهابيين والمفسدين فى الأرض الذين يُثيرون الرعب بين الناس ويروعون الآمنين ويقتلون الأبرياء فالسكوت على مثل هؤلاء هو نوع من أنواع الدعم لهم والذى نهى عنه القرآن الكريم.
حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَـٰمِۚ ذَٲلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡيَوۡمَ يَٮِٕسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِينً۬اۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِى مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٍ۬ لِّإِثۡمٍ۬ۙ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ۬ رَّحِيمٌ۬ (٣) يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتُۙ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَہُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ (٤) ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ حِلٌّ۬ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلٌّ۬ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَـٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِىٓ أَخۡدَانٍ۬ۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَـٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُ ۥ وَهُوَ فِى ٱلۡأَخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِينَ (٥) يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَڪُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبً۬ا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٌ۬ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآٮِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءً۬ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدً۬ا طَيِّبً۬ا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِڪُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡڪُم مِّنۡ حَرَجٍ۬ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُ ۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّڪُمۡ تَشۡكُرُونَ (٦) وَٱذۡڪُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمِيثَـٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِۦۤ إِذۡ قُلۡتُمۡ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (٧) يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٲمِينَ لِلَّهِ شُہَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّڪُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ (٨) وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِۙ لَهُم مَّغۡفِرَةٌ۬ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ۬ (٩) وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَـٰتِنَآ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَحِيمِ (١٠) يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡڪُمۡ إِذۡ هَمَّ قَوۡمٌ أَن يَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ فَكَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنڪُمۡۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ (١١) ۞ وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ بَنِىٓ إِسۡرَٲٓءِيلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَىۡ عَشَرَ نَقِيبً۬اۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مَعَڪُمۡۖ لَٮِٕنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيۡتُمُ ٱلزَّڪَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِى وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنً۬ا لَّأُڪَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّڪُمۡ جَنَّـٰتٍ۬ تَجۡرِى مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۚ فَمَن ڪَفَرَ بَعۡدَ ذَٲلِكَ مِنڪُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ (١٢) فَبِمَا نَقۡضِہِم مِّيثَـٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَـٰسِيَةً۬ۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡڪَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦۙ وَنَسُواْ حَظًّ۬ا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآٮِٕنَةٍ۬ مِّنۡہُمۡ إِلَّا قَلِيلاً۬ مِّنۡہُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡہُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (١٣)
(3) يرى البعض أن الدين الإسلامى قد إكتمل بنزول هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وبالتالى فإن كل ما جاء فى الدين من تأويلات أو تشريعات بعد ذلك هى إجتهادات فكرية تخص أصحابها ولايجوز إعتبارها جزءاً أساسياً من الدين الذى إكتمل بالفعل بنزول هذه الآية، فعلينا أن نفرق بين الوحى الإلهى أى القرآن الذى كما ذكرنا إكتمل بنزول هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} و بين المفاهيم البشرية للدين فالأول أى القرآن هو وحى إلهى لا خلاف عليه أما المفاهيم البشرية لذلك الوحى فقد تختلف بإختلاف الزمان و المكان.
(4){فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} بالرغم أن البعض يظن أن إقتناء الكلاب أو لمسها مُحرم عند الله فإن هذه الآية تبيح أكل الصيد الذى أمسكته الكلاب، وتبعاً للقرآن الكريم فإن أهل الكهف وهم مكرمون فى القرآن {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} كانوا يقتنون كلبا ويعيشون معه {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}.
(5) هذه الآية تبيح زواج المسلم من غير المسلمة ويرى البعض أن الآية لم تحرم بصفة قاطعة عكس ذلك “أى زواج المسلمة من غير المسلم”، والأصل فى تحريم أى شئ هو وجود نص قطعى فكما قال القرآن {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}.
(6) { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } حينما نتأمل وقت نزول هذه الآية وهى آية مدنية ونقارنه بوقت فرض الصلوات الخمسة كما يُروى فى حادث الإسراء والمعراج وقت وجود الرسول فى مكة يتضح لنا أن المسلمين صلوا لسنين عديدة بدون وضوء حيث أن آية الوضوء آية مدنية، وذلك يدلل على أن الأمور الحركية مثل حركات الصلاة والوضوء ليست هى المحور الحقيقى للعباده كما يظن البعض وأهم شئ فى الصلاة هو جود صلة بين العبد و ربه، و وجود هذا الفارق الزمنى الكبير بين أمر الصلاة كما ذكر فى مكة والوضوء كما ورد فى المدينة يعنى أن المسلمين الأوائل صلوا لعدة سنين دون وضوء وذلك يؤكد أن طهارة الروح أهم عند الله من غسل الجسد بالماء قبل الصلاة. و قبول التيمم كبديل عن الوضوء يؤكد أيضاً على هذا المعنى، فالطهارة للصلاة قد تكون فى وجود ماء أو فى عدم وجوده فلو كان الماء هو ما يصنع الطهارة لما قٌبلت الصلاة بدونه كما فى حالة التيمم فكما ذكرنا أن طهارة النفس والروح هى الأهم عند الله.
ونلاحظ أيضاً أن الرسول الكريم كان يصلى حتى قبل المعراج (فى مكة) وقبل نزول آية الوضوء (فى المدينة) فكما ذكر القرآن فى أول سورة نزلت فيه وكانت قبل حادث المعراج {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ} فى إشارة الى الذين نهوا النبى عن صلاته فى غار حراء.
و تعبير {لَامَسْتُمُ} المستخدم فى الآية يختلف عن تعبير “لمس” فالأولى تفيد الإستمرارية والثانية تفيد اللحظية (وذلك مثل الفارق بين كلمة “قاتل” على وزن “فاعل” و بين كلمة “قتل” على وزن “فعل”), وتبعا لذلك فإن لمس المرأة لا ينقض الوضوء كما يظن البعض ولكن “الملامسة” أى الإستمرارية – و هى هنا كناية عن وجود غريزة جسدية و إستمرارها – تنقض الوضوء، وفى نهاية الأمر فإن طهارة الفكر والقلب كما ذكرنا سابقاً هو أهم شئ عند الله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} ( أى طهر نفسه من الشرور ).
(8) { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا } يقر القرآن الكريم فى هذه الآية واحداً من أهم مبادئه ألا وهو قول كلمة الحق حتى لو كان ذلك فى صالح عدوه أو من يكره وهذه الصفة يتحلى بها المؤمنون الحقيقيون فحبهم للحق هو نابع من حبهم لله لأن الله هو الحق {فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ}، وذلك يجعلهم يقولون كلمة الحق فى جميع الظروف حتى لو كان الحق مع من يكرهونه.
(10) حينما يستخدم الله كلمة {الْجَحِيمِ} قد يقصد بها المعنى المادى لها أى جهنم وقد يقصد بها معنى مجازياً وهو أن يكون الإنسان بعيداً عن الله { وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} و { أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} ، وعلينا دائماً تذكر أن وصف الله لأحد أو لمجموعة من البشر أنهم أصحاب الجحيم هو حق له وحده لا ينازعه فيه أحد من البشر ولا حتى الرسول نفسه فكما جاء فى القرآن على لسان النبى عليه السلام {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْۖ}.
(13) يتحدث الله تعالى هنا عن مواقف حدثت من بعض طوائف وفرق من الأمم السابقة مثل بنى إسرائيل ومن الظلم محاسبة أبناء هذه الطوائف فى العصر الحالى بمواقف حدثت فى عصور سابقة فى وقت بداية الإسلام فالقرآن أقر مبدأ رفض حساب الأبناء بذنب الآباء {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}، وكما ذكرت الآية فإن معاملة المسلم مع الجميع لابد أن تكون حسنة ورائعة {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، وإستخدام القرآن تعبير{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } بدلاً من “يحرفون الكلم” يدل على أن القرآن يتحدث هنا عن تحريف مفهوم الكلمات الإلهية وتفسيرها و فهمها بصورة غير التى ذكرت لأجلها وليس تحريف الكلمات نفسها، وهذا الخطأ وهو تحريف مفهوم الكلام الإلهى يحدث فى كل الأديان نتيجة لمحاولة البعض إستخدام آيات الدين لتحقيق مصالحهم الشخصية أو لدعم مفهوم خاص بهم يخدم أغراضهم.
وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَـٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَـٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظًّ۬ا مِّمَّا ذُڪِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَـٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا ڪَانُواْ يَصۡنَعُونَ (١٤) يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡڪِتَـٰبِ قَدۡ جَآءَڪُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ ڪَثِيرً۬ا مِّمَّا ڪُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡڪِتَـٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن ڪَثِيرٍ۬ۚ قَدۡ جَآءَڪُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ۬ وَڪِتَـٰبٌ۬ مُّبِينٌ۬ (١٥) يَهۡدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٲنَهُ ۥ سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٲطٍ۬ مُّسۡتَقِيمٍ۬ (١٦) لَّقَدۡ ڪَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن يُهۡلِكَ ٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُ ۥ وَمَن فِى ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعً۬اۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىۡءٍ۬ قَدِيرٌ۬ (١٧) وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُ ۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٌ۬ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ (١٨) يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٍ۬ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٍ۬ وَلَا نَذِيرٍ۬ۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٌ۬ وَنَذِيرٌ۬ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىۡءٍ۬ قَدِيرٌ۬ (١٩)
(14) {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ} إستخدام “من” للتبعيض فى هذه الآية تعنى أن الآية تتكلم عن فئة خاصة و ليس عن كل المسيحيين وتعميم الآية على جميع المسيحيين ليس فقط مخالفاً لمبدء القرآن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} لكنه أيضا مخالف لصريح القرآن وكلماته، والله تعالى لم يستخدم كلمة “من” عبثاً تعالى الله عن ذلك فهو الذى أنزل كتابه بالحق والميزان {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}.
(15-16) {تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} الإخفاء هو عدم إظهار الشئ وليس محوه، ففى بعض العصور على سبيل المثال أخفى بعض رجال الدين معانى الحب والسلام فى كتب الله وأظهروا معان ٍ تحض على الكراهية (لأنها أُخذت عن سياقها) وقد نهى الله تعالى عن فعل هذا (أى إخفاء آيات وإظهار أخرى) وللأسف ففى عصرنا هذا يفعل بعض المنتمين إسماً للإسلام نفس الخطأ الذى وقع فيه بعض السابقين فيُظهرون بعض الآيات التى نزلت فى سياق حرب و يخفون الآيات الداعية الى السلام والمحبة والتراحم فيتسببون بذلك فى إعطاء مفهوم خاطئ للدين.
{قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ من اتبع رضوانه سبل السلام} ونلاحظ مرة أخرى أن الله تعالى إستخدم ضمير المفرد “به” و ليس المثتى ” بهما ” للتأكيد أن النور والكتاب المبين هما شئ واحد وليسا شيئين، وقد كرر الله ذلك المعنى فى أكثر من آية مثل {الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ} ولم يقل “بهما ” ليؤكد أنه يتحدث عن شئ واحد وليس عن شيئين مختلفين، وأيضاً قال تعالى {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} و لم يقل يرضوهما ليؤكد على نفس المعنى وهو رفض أى محاولة لجعل طاعة الرسول شيئاً مختلفاً عن طاعة الله وكأن هناك وحيين وليس وحياً واحداً.
(17) { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ }
سنعرض فى الأسطر التالية بعض الآراء و المفاهيم المختلفة لهذه الآية :
الرأى الأول : هو أن كل من قال أن المسيح هو الله مصيره جهنم و يتناقض هذا الرأى مع قوله تعالى {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}, إذا كان الرسول لا يعرف مصيره أو مصير الآخرين فكيف يحق لنا أن نصدر أحكاماً على غيرنا بأنه من أهل جهنم فالحساب حق لله وحده, حتى لو كان فعلهم يراه البعض كفراً فإن حساب فاعله أى إدخاله جهنم أم الجنة هو حق لله وحده { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم }.
الرأى الثانى : أن كفر إنسانً بما أعتقد أنا وكفرى بما يعتقد هو لايجيز لنا أن نكره الآخرين أو نعاملهم معاملة سيئة و علينا أن نبرهم ونقسط إليهم كما قال القرآن :
{لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
الرأى الثالث : وهو كما ذكر الشوكانى أن الآية تفيد حصر الله فى شخص المسيح فقوله { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } قد يختلف لغويا عن “أن المسيح أبن مريم هو الله ” فالأولى والمذكورة فى الآية تعنى أن الله لا كينونة له خارج جسد المسيح وأنه محصور فقط فى الجسد الذى نزل على الأرض.
الرأى الرابع : أنه فى جميع الأحوال لابد من إتباع القواعد و المبادئ الآتية مع جميع من يخالفنا الفكر والعقيدة :
- عدم إصدار الأحكام بدخول جهنم أو الجنة فالحكم لله رب العالمين {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} وهو وحده صاحب الحق فى الحكم على البشر.
- معاملة جميع البشر بالحسنى حتى لو إختلفوا عنا وطالما لم يعتدوا علينا {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}. –
- عدم المساس بمال أو دماء أو أعراض الآخرين لأن فعل ذلك مع أى إنسان يدخل فاعله فى طائفة المفسدين فى الأرض { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} .
- أننا إذا إعتبرنا أن عقيدة ما هى كفر وشرك و دعاء لغير الله فعلينا تذكر الآية القرآنية {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِۚ} و تعبير ” إنما ” هو أسلوب قصر أى أن حسابه عند خالقه فقط أى أنه لا يحق لنا بأى صورة من الصورالتدخل فى حساب الآخرين.
(18) العتاب هنا على من يظن أن له أفضلية عند الله عن باقى البشر أو أنه فوق المحاسبة من قبل الله تعالى وذلك المبدأ ينطبق علينا أيضاً، فإذا أعتبر القرآن أن آخرين فعلوا خطأ ًما فلا يحق لنا فعل نفس الخطأ.
وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَـٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكً۬ا وَءَاتَٮٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدً۬ا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِينَ (٢٠) يَـٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِى كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَـٰسِرِينَ (٢١) قَالُواْ يَـٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيہَا قَوۡمً۬ا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِنَّا دَٲخِلُونَ (٢٢) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡہِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡہِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (٢٣) قَالُواْ يَـٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدً۬ا مَّا دَامُواْ فِيهَاۖ فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَآ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ (٢٤) قَالَ رَبِّ إِنِّى لَآ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِى وَأَخِىۖ فَٱفۡرُقۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِينَ (٢٥) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡہِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةً۬ۛ يَتِيهُونَ فِى ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِينَ (٢٦) ۞ وَٱتۡلُ عَلَيۡہِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَىۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانً۬ا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأَخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ (٢٧) لَٮِٕنۢ بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقۡتُلَنِى مَآ أَنَا۟ بِبَاسِطٍ۬ يَدِىَ إِلَيۡكَ لِأَقۡتُلَكَۖ إِنِّىٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَـٰلَمِينَ (٢٨) إِنِّىٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِى وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلنَّارِۚ وَذَٲلِكَ جَزَٲٓؤُاْ ٱلظَّـٰلِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتۡ لَهُ ۥ نَفۡسُهُ ۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابً۬ا يَبۡحَثُ فِى ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُ ۥ كَيۡفَ يُوَٲرِى سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَـٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَـٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٲرِىَ سَوۡءَةَ أَخِىۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ (٣١)
(20-26) ذكرت تفاصيل هذه القصة فى التوراة أيضاً وعلينا دائماً ملاحظة أن أخطاء البعض من بنى إسرائيل لا تجيز محاسبة كل بنى إسرائيل عليها، فعلى سبيل المثال فالرجلان اللذان أنعم الله عليهما فى هذه القصة وأيضاً سيدنا موسى وسيدنا هارون كانوا كلهم من بنى إسرائيل وذلك يؤكد أنه لايجوز تعميم عتاب الجميع على أخطاء إرتكبها البعض منهم، فكما قال القرآن منهم الصالحون و منهم دون ذلك {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ}، وعلينا أيضاً ملاحظة أن القرآن لا يقبل مبدأ محاسبة الأبناء بذنب أرتكبه الآباء فحتى وإن أخطأ البعض من بنى إسرائيل فى بعض العصور فإن ذلك لا يجيز معاتبة بنى إسرائيل عليها لأن الإنسان غير مسؤل عما فعله بعض آبائه، فعلى سبيل المثال لا يمكن عتاب أو محاسبة خليل الرحمن إبراهيم بذنب آبائه لأنهم كانوا عبده للأصنام، وقد أوجز القرآن هذا المعنى و المبدأ و المفهوم فى الآية {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}.
(27-30) تعلمنا هذه الآيات معانٍ كثيرة كما يلى :
أولاً : أن الذين يستخدمون العنف هم الذين يكونون على الباطل, أما من كان معه الحق و الإنسان الصالح مثل هابيل فلا يلجأ لإستخدام العنف.
ثانياً : أن الإنسان المؤمن بالله حقاً يحترم النفس البشرية ويتفادى العنف بأقصى صورة ممكنه فها هو الأخ الصالح هابيل يرفض أن يهدد حياة أخيه مع العلم بأن أخاه كان يهدده بالقتل، فضرب بذلك هابيل بقوله {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} أروع الأمثلة فى عدم رد العدوان بالعدوان و إحترام حرمة النفس البشرية وقدسيتها و تفادى قتل أى إنسان حتى لو كلفه الأمر حياته فى النهاية, فهذا أروع مثل رأيناه على معنى إحترام الحياة والذى تجلى فى قول رب العزة {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، ويذكرنا هذا ببشاعة الإرهابيين وغيرهم من القتلة الذين يفعلون عكس ذلك تماماً فيستبيحون الإعتداء على آمنين وإزهاق أرواحهم وقتل الأنفس البشرية فهم أبعد ما يكونوا عن القرآن الكريم و مبادئه العليا والله ورسوله أبرياء منهم و مأواهم جهنم وساءت مصيرا لما أرتكبوه من جرائم فى حق الإنسانية جمعاء، فأين هم من هابيل الذى رفض أن يقتل حتى و إن كلفه ذلك حياته.
مِنۡ أَجۡلِ ذَٲلِكَ ڪَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِىٓ إِسۡرَٲٓءِيلَ أَنَّهُ ۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٍ۬ فِى ٱلۡأَرۡضِ فَڪَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعً۬ا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَڪَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعً۬اۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَـٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرً۬ا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٲلِكَ فِى ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ (٣٢) إِنَّمَا جَزَٲٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِى ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٲلِكَ لَهُمۡ خِزۡىٌ۬ فِى ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِى ٱلۡأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُواْ عَلَيۡہِمۡۖ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ۬ رَّحِيمٌ۬ (٣٤) يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَـٰهِدُواْ فِى سَبِيلِهِۦ لَعَلَّڪُمۡ تُفۡلِحُونَ (٣٥) إِنَّ ٱلَّذِينَ ڪَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِى ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعً۬ا وَمِثۡلَهُ ۥ مَعَهُ ۥ لِيَفۡتَدُواْ بِهِۦ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِ ٱلۡقِيَـٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ۬ (٣٦) يُرِيدُونَ أَن يَخۡرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنۡہَاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ۬ مُّقِيمٌ۬ (٣٧)
(32 ) { مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } :
نلاحظ أن القرآن لم يستخدم أداة تعريف ليعرف كلمة {نَفْسٍ} المذكورة فى الآية ولم يذكر أى عقيدة تتبع و تركها نكرة لكى تشمل جميع بنى البشر أياً كان فكرهم أو عقيدتهم، فسواء كانت هذه النفس مسلمة أو مسيحية أو يهودية أو بهائية أوهندوسية أو بوذية أو من أى طائفة أخرى فهى فى النهاية “نفس” ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.
(33) الإفساد فى الأرض هو كما قال القرآن إهلاك الحرث والنسل مثل أعمال النهب والحرق و الدمار وذبح الآبرياء و ترويع الآمنين والقتل والإغتصاب، ومن أبشع أنواع الإفساد فى الأرض هو عمليات الإرهاب التى تنشر الرعب فى قلوب الناس وتزهق الأرواح البريئة بإسم الدين، والإرهابيون الذين يفعلون ذلك هم ألد أعداء الإسلام فلا شر أشد من شرهم ولا كفراً أشد من كفرهم, فهم مشركون بالله عبدوا أهواءهم الشريرة {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} وهم مشركون عبدوا أهواءهم وسجدوا لرغبات الشيطان فى العداوه و البغضاء وسفك الدماء { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ } وعقوبة هؤلاء { أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ} .
المفهوم الأول :
إعطاء إختيار النفى من الأرض فى الآية كخيار يؤكد أن الغاية العظمى فى القرآن ليست بهدف الإنتقام من الناس بل حماية المجتمع وإحترام الحياة والحفاظ عليه
المفهوم الثانى هذا الجزاء لاينفذ إذا تاب المتهم وسلّم نفسه الى العدالة كما جاء فى القرآن قوله { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ }.
المفعهوم الثالث :
أن قوله تعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} يفتح المجال لإختيار ما يناسب العرف العالمى من هذه العقوبات فيكتفى بنفى المجرم (أو سجنه) كعقوبة له لأن العقوبات البدنية أصبحت غير مقبولة فى المواثيق الدولية، وفى هذا الإختيار تطبيق لأمرالله بالنفى أى السجن دون الإخلال بالعرف العالمى كما أمرت الآية {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ }.
(34) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يؤكد القرآن مرة أخرى فى هذه الآية أن الأساس فى الدين هو العفو عن التائب حتى لو كان مجرماً فمن تاب وندم على ما فعل و سلم نفسه للسلطات بمحض إرادته فلا تطبق العقوبة المذكورة و يشمله عفووغفران الله.
(35) { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} الوسيلة للوصول للذات الإلهيه تكون بالتفكر فى ملكوته والتأمل فى خلقه وعمل الخيرات ومحبة الأخرين فكل هذا يقرب الإنسان الى ربه :
{ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ}.
{ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ } والجهاد الحقيقى فى سبيل الله هو جهاد النفس ضد الأهواء والشهوات والأفكار الشريرة و ضد العداوة و البغضاء فعدو الإنسان الحقيقى الذى ينبغى أن يقاومه و يجاهده هو الشيطان {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا }، ومن الجهاد فى سبيل الله التأمل فى ملكوت السماوات والأرض فكما قال تعالى { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ( للوصل الى الله من خلال التأمل والتفكرفى ملكوته ) لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }. و الجهاد الحقيقى يكون أيضاً بنشر السلام فى الأرض وليس بالعنف فكلمة الإسلام تعنى لغويا تفعيل أوصناعة السلام فى الأرض فكما قال تعالى {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ونؤكد هنا أن القرآن وإن أقر نوعا من الجهاد لمقاومة العدوان فإنه حرم البدء بالعدوان على الآخرين {وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، فالجهاد بمعنى القتال شرع فقط للدفاع عن النفس من إعتداء الآخرين وليس للإعتداء عليهم.
(36) إستخدام أداة التعريف “الذين” تشير الى أن القرآن يتكلم هنا عن كفار مكة وقريش الذين عذبوا المؤمنين الأوائل و ظلموهم و إضهدوهم وطردوهم من ديارهم وحرقوا بعضهم أحياءاً لا لشئ إلا أنهم يؤمنون بعقيدة مخالفه لهم, و لأجل ذلك فإن من يضطهد إنساناً ما لأنه يؤمن بفكرأوعقيدة مخالفة لعقيدته فقد أصبح مجرماً لايقل فى جرمه عن كفار مكة المذكورين فى الآية لأنهم إستضعفوا وأضطهدوا أقلية لأنها تختلف معهم فى الدين والفكر.
(37) يرى البعض أن العذاب فى جهنم فى القرآن الكريم هوعذاب مادى بالفعل, ويرى البعض الآخرأن العذاب فى جهنم للتخويف من عمل الشر {ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}، و يرى آخرون أن المكوث فى النار مرتبط بالمشيئة الإلهية{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، وفى جميع الأحوال سواء كان المعنى خبرياً أم إنشائياً أومجازياً أو للتخويف أو لوقت محدد فى المشيئة الإلهية فإن ما سيحدث بالفعل هو أمر غيبى فى علم الله وحده ولا يعلمه إلا سواه {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}.
وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَـٰلاً۬ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ۬ (٣٨) فَمَن تَابَ مِنۢ بَعۡدِ ظُلۡمِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيۡهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ۬ رَّحِيمٌ (٣٩)
(38) { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } تختلف المفاهيم الفكرية و تفسير هذه الآية كما يلى : بعد البحث فى الأية الكريمة و فى مفاهيمها المختلفه إتضح لنا أنه يوجد لها عدة مفاهيم وليس مفهوماً واحداً، فعلى سبيل المثال لا الحصر يوجد على الأقل سبعة مفاهيم مختلفه لنفس هذهِ الآية قد تختلف تماماً عن بعضها البعض.
المفهوم الأول : و هو أنه ينبغى بتر يد من سرق وهذا المفهوم هو مفهوم سطحى للآية كما سنرى فى الشرح التالى.
المفهوم الثانى : أن بتر اليد لا يتم تنفيذه إلا على من إحترف السرقة فأصبحت هى مهنته و ليس على من سرق مرة واحدة لأن إستخدام “ال” التعريف فى الآية تفيد إحتراف الشئ وليس فعله مرة واحدة فمن أعطى درساً مرة واحدة لا يطلق عليه لقب “المدرس” إلا إذا دّرس عدة مرات، وأصبح التدريس مهنته، وهذا الرأى قد ذكره الأستاذ الأمام الشيخ محمد عبده فى تفسيرهِ للآية ، ولو كان القرآن الكريم يعنى كل من سرق لقالت الآية “ومن سرق ومن سرقت” وليس {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}.
المفهوم الثالث : أن الآية الكريمة لا تعنى على الأطلاق بتر اليد لأنها أستخدمت تعبير{فَاقْطَعُوا} ولم تستخدم التعبير “فابتروا” والفارق شاسع بين التعبيرين فقد إستخدم القرآن تعبير قطع الأيدى فى آية أخرى {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} لوصف كيف خدشت بعض النساء أيديهن بسكين حينما رأين سيدنا يوسف ، فالقطع فى القرآن – على عكس البتر – يعنى خدش سطحى بسيط يلتئم بعد بضعة أيام، ولو أراد القرآن بتر اليد فى حالة السرقة لكان استخدم فابتروا أيديهما بدلاً من فاقطعوا أ يديهما، و لم يكن القرآن عاجزاً عن إستخدام كلمة البتر إذا كان هو المعنى المطلوب فقد إستخدم بالفعل كلمة مشتقة من البتر ليعنى إنقطاع النسل وذلك فى قوله تعالى {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}.
المفهوم الرابع : و هو أن التعبير المستخدم فى الآية قد يكون مجازياً ويعنى منع السارق تماماً من السرقة بصورة أو بأخرى مثل وضعهِ فى السجن لفترة من الزمان كما نقول أحياناً ” أقطع رجل فلان من هنا ” وتعنى مجازياً إمنعه من دخول هذا المكان مرة أخرى. و كذلك أيضاً فإن تعبير “إقطع لسانه” فى اللغة العربية يُشير مجازاً الى منع الشخص من الكلام أو الحديث.
و القرآن ملئ بالتعبيرات المجازية فمثلاً {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْۚ} لا تعنى يداً مادية بها خمس أصابع فوق أيديهم وإنما تعنى التأييد والتعضيد.
المفهوم الخامس : أن قطع يد السارق ليس مبدءاً أساسياً فى الإسلام وإنما هو أمر من أمور الشورى والتغيير تبعاً للظروف، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب نفسه وهو ثانى الخلفاء الراشدين وهو واحد من العشرة المبشرين بالجنة أوقف العمل بحد السرقة فى عام الرماده ولو كان عدم تطبيق الحد خروجاً على الأسلام لكان عمرأول من خرج عن الدين، فهل يجوز إتهام عمر بن الخطاب بأنه خرج عن الأسلام لإيقافه العمل بحد السرقة؟ أم أن فهمه للدين كان أعم و أشمل من فهمنا المحدود و الحرفى له فلم يجد أى مشكلة فى إيقاف العمل بهذا الحد .
المفهوم السادس : أن السارق لايقام عليه الحد إن أعلن التوبة وطلب المغفرة من الله و ذلك لقوله تعالى :
(إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) و قوله { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ }.
فإن كان الله تعالى وهو مالك الملك وصاحب الحق الإلهى فى تنفيذ العقوبة قد غفر له و سامحه بعد توبته فمن نحن حتى نرفض أو نمنع غفران الله له أو نعترض عليه؟، وقد يقول البعض أن هناك حقاً مدنياً للدولة وفى هذه الحاله يُنفذ عليه قانون مدنى وليس دينياً لأن صاحب الحق الدينى وهو الله تعالى يغفر الذنب ويعفو عن التوابين حتى و إن تكررت أخطاؤهم .
المفهوم السابع : أن الله تعالى أعطى لنا الحق فى إختيار الآيات التى تناسب عصرنا فقال تعالى {اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} وذلك يعنى أن هناك آيات حسنة وآيات أكثر حُسناً فى كتاب الله وذلك لأنها تناسب المكان والزمان الذى نعيش فيه أكثر من غيرها من الآيات وتبعاً لهذا الرأى فإنه واجب علينا إتباع العُرف العالمى وهو مواثيق حقوق الأنسان و التى تمنع العقوبات البدنيه وذلك تبعاً لقولهِ تعالى {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}.
وعلى ذلك يتبين لنا أن الآية الخاصة بالسارق والسارقة “إلَهية” و لكن تنفيذ الحد فى حقيقتهِ ليس تنفيذاً للآية الإلَهية على الإطلاق وإنما هو تنفيذ لمفهوم بشري للآية والأخير ليس إلَهياً فى مصدره لأن فيه إختلاف كثير فقد رأينا على سبيل المثال سبعة مفاهيم بشرية مختلفة لنفس الآية كما سبق وإن كانت الآية هى من عند الله فإن مفاهيمها المختلفة ليست من عند الله و ذلك لقوله تعالى { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ ۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَٱلۡأَرۡضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ ڪُلِّ شَىۡءٍ۬ قَدِيرٌ۬ (٤٠) ۞ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٲهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡڪَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُ ۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُ ۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِى ٱلدُّنۡيَا خِزۡىٌ۬ۖ وَلَهُمۡ فِى ٱلۡأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ۬ (٤١)
(40) {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} نلاحظ أن الآية لم تقل “يعذب من تشاءون ويغفر لمن تشاءون” بل قال “لمن يشاء” هو، وذلك يتفق أيضاً مع قوله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }، وتؤكد هذه الآيات الكريمة مرة أخرى على واحد من أهم المعانى القرآنية ألا وهو ترك حق الحساب لله وحده وللأسف نرى البعض منا يطلق اللعنات على أهل الديانات الآخرى وعلى كل من يخالفه الرأى وكأن بيدهم هم حساب البشر، وقد نصّب هؤلاء وجعلوا أنفسهم كآلهة ينازعون الله حق حساب البشر وحاشا لله رب العالمين أن ينازعه مخلوق فى حق يملكه هو وحده، فهو كما قال فى هذه الآية { يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ }، والله هو الحى القيوم الذى يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور صاحب العزة و الجلال الذى لا يظلم مثقال ذرة ولايغفل عن شئ فى الأرض ولا فى السماء فإليه وحده المآب له وحده حق الحساب {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم}.
(41) تؤكد هذه الآية { لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ} أن قول كلمات الإيمان باللسان لا قيمة له بدون فعل الخيرات فلا يعنى قول لا إله إلا الله شيئاً إذا لم يصحبه أفعال تدل على أن الإنسان يعرف الله حقاً.
ومن الأعمال الصالحة التى تعتبر هى قلب الإيمان الحقيقى و نبضه ما يلى :
- القول الحسن للناس { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا }.
- إطعام المحتاجين أياً كان دينهم أو فكرهم أوعقيدتهم {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.
- إكرام اليتيم {كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}.-
- الرد على السيئة بالحسنه {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}.
- عدم الظلم {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}, و{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}.
- عدم الإعتداء على الآخرين {وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }.
- التعايش فى سلام مع الآخرين (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)
- الإتصاف بالرحمة فى معاملة الآخرين {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}.
- الإتصاف بالعدل حين يحكم فى أى أمر {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}.
- التسامح فى معاملة الآخرين {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} و {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}
فالإيمان ليس كلمات ٍ تقال و إنما هو معاملة للآخرين بالحسنى تدل على أن قلب هذا الإنسان فيه قبس من نور الله و أنه عبد رباني, حين يرى الناس أعماله الحسنة يسبحوا و يقدسوا أسم خالقه سبحانه وتعالى فكما قال القرآن {وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}.
و نلاحظ أيضا فى الآيات إستخدام تعبير {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} و “من” هنا للتبعيض أى بعضاً من الذين هادوا ولا يجوز تعميمها على كل الذين هادوا, لأن فى هذا ظلماً لأبرياء.
سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَڪَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَہُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡہُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـًٔ۬اۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَہُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ (٤٢) وَكَيۡفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوۡرَٮٰةُ فِيہَا حُكۡمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوۡنَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٲلِكَۚ وَمَآ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ (٤٣) إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَٮٰةَ فِيہَا هُدً۬ى وَنُورٌ۬ۚ يَحۡكُمُ بِہَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ وَڪَانُواْ عَلَيۡهِ شُہَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَـٰتِى ثَمَنً۬ا قَلِيلاً۬ۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ (٤٤) وَكَتَبۡنَا عَلَيۡہِمۡ فِيہَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٌ۬ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ ڪَفَّارَةٌ۬ لَّهُ ۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡڪُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَـٰرِهِم بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ مُصَدِّقً۬ا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَٮٰةِۖ وَءَاتَيۡنَـٰهُ ٱلۡإِنجِيلَ فِيهِ هُدً۬ى وَنُورٌ۬ وَمُصَدِّقً۬ا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَٮٰةِ وَهُدً۬ى وَمَوۡعِظَةً۬ لِّلۡمُتَّقِينَ (٤٦) وَلۡيَحۡكُمۡ أَهۡلُ ٱلۡإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡڪُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ (٤٧) وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقً۬ا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡڪِتَـٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡڪُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلٍّ۬ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةً۬ وَمِنۡهَاجً۬اۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَڪُمۡ أُمَّةً۬ وَٲحِدَةً۬ وَلَـٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِى مَآ ءَاتَٮٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٲتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُڪُمۡ جَمِيعً۬ا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَہُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَہُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِہِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرً۬ا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَـٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمً۬ا لِّقَوۡمٍ۬ يُوقِنُونَ (٥٠)
(42) { وَإِنْ حَكَمْتَ } إستخدام “إن” يفيد الإحتمال لا القطع, فلم يكن الرسول ليجبر غيره على إتباع حكمه ولكن إذا إحتكم إليه الناس كما فى قوله {وَإِنْ حَكَمْتَ} – أى بناء على رغبتهم – فعليه أن يحكم بينهم، والقرآن الكريم كان واضحاً فى أن الرسول ليس من حقه إجبار أحد على حكم القرآن {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} وليس من حقه إكراه الآخرين عليه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.
وحكم الله ليس هو فقط العقوبات على الجرائم كما يظن البعض إنما هو تطبيق مبادئ الإسلام العليا التى لاخلاف عليها مثل العدل و الإحسان{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}, والمغفرة{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} و الصفح عن المخطئين {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}. والتحلى بصفات الله فى الرحمة {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}, والمغفرة {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فهذا هو حكم الله الحقيقى كما جاء به الرسول الكريم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.
( 43) وصف الله تعالى التوراة بــأنها {هُدًى} وأنها{ نُورٌ } لأنها كلماته التى تدعوا كباقى الأديان الى عبادة الله والإحسان بالوالدين و الرحمة وأن يحب الإنسان قرينه الإنسان كنفسه وأن يبتعد عن عمل الجرائم مثل القتل وكل هذه المبادئ المذكورة فى التوراة هى فى القرآن أيضاً.
( 46 ) وصف الله تعالى فى هذه الآيات الإنجيل أيضاً بأنه هدى و نور. و الإنجيل لمن يقرؤأه يدعو للمحبة والسلام و مسامحة الآخرين و العطاء والتضحية ونلاحظ أن الله تعالى قد وصف جميع كتبه بنفس الصفات لأنها من مشكاة واحدة فقال عن التوراة {فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ} و قال عن الإنجيل {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} و قال عن القرآن {هُدًى لِّلنَّاسِ } ووصفه بقوله {نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}، و كل هذه الكتب تتفق على أحكام الله الثابتة و أوامره المحكمة مثل الإيمان بوجود خالق وعمل الخيرات ومساعدة الضعفاء.
(48) {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} يقال : يهيمن على الشئ إن كان له حافظاً, والمعنى هنا أن القرآن صار شاهداً على صحة الكتب المنزلة ومقراً لما فيها (تفسير القرآن للشوكانى الجزء الأول صفحة 580) – فالهيمنة لا تعنى السيطرة، و إستخدام تعبير {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} فى هذه الآية هو إقرار من الله تعالى أنه أعطى كل أمة كتاباً أو طريقة للوصول إليه وقد تختلف الكتب و لكن جوهرها واحد، وهذا الإختلاف لاينبغى أن يدعونا أن نكره بعضنا البعض لأنه تم بمشيئة الله و بإرادته {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، و {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}.
فإختلاف الناس فى عقائدهم و طرق عبادتهم تم بإرادة الله الواحد وكما نرى فى الآيات السابقة فإن إرادة الله تحترم التنوع و تريد الإختلاف، وتعبير { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } هو دعوة من الله تعالى لجميع البشر سواء كانوا مسلمين أو مسيحين أو يهود أو من معتنقى أى عقائد أخرى للتسابق فى عمل الخيرات مثل إكرام اليتيم و إطعام المسكين و علاج المريض بدلاً من التسابق فى إثبات كل واحد منهم للآخر أن طريقه الى الله هو أفضل الطرق، و قوله تعالى {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} يؤكد على حقه وحده فى حساب البشر فمرجعنا كلنا فى نهاية الأمرهو الى الله وليس لأحد سواه أى أنه هو وحده صاحب الحق فى حسابنا, وعلينا كبشر ألا نشغل أنفسنا بكيف سيحاسب الله عباده وأن ننشغل بالتسابق والتعاون فى عمل الخيرات كما ذكرت الآية {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}.
(49) مبادئ حكم الله التى أقرها القرآن الكريم تشمل :
- العدل { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ },
- عدم إكراه الآخرين فى الدين { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ },
- عدم التدخل فى محاسبة البشر{ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ },
- الرحمة و المغفرة { وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ },
- الصفح عن المخطئين { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ },
- معاملة الناس بالحسنى أياً كانت فكرهم أو عقيدتهم { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا }.
و حينما يستخدم القرآن ضمير الغائب “هم” كما فى كلمة { بِأَهْوَائِهِم} و {فَاحْذَرُوهُمْ} فهو يتحدث عن مجموعة بعينها مخصصة فى هذه الآية بضمير الغائب “هم”.
(50) { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } كان حكم الجاهلية يفرق بين الشريف الضعيف، فكان إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف عاقبوه ، وكان أيضاً يفرق بين الأحرار والعبيد فيعاقب العبد بدلاً من الحر على جرم لم يرتكبه وهذا الظلم يرفضه القرآن وترفضة جميع الشرائع الإهية فإن الله أمرنا بالعدل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وهو لا يقبل الظلم {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ويساوى بين البشر فى الحقوق فكلهم خلقوا من نفس واحدة {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}.
۞ يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَہُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُہُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٍ۬ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُ ۥ مِنۡہُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِى ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ (٥١) فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ۬ يُسَـٰرِعُونَ فِيہِمۡ يَقُولُونَ نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآٮِٕرَةٌ۬ۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِىَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرٍ۬ مِّنۡ عِندِهِۦ فَيُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِىٓ أَنفُسِہِمۡ نَـٰدِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَهَـٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ أَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَـٰنِہِمۡۙ إِنَّہُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُواْ خَـٰسِرِينَ (٥٣)
(51 – 53) {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ} ” لا ” فى هذه الآية هى “لا الناهية” وهى تعنى فى اللغة النهى عن فعل معين، ولفهم هذه الآية لابد أن نفهمها مع آيات القرآن الأخرى والتى توضح معناها الحقيقى وعن من ينهانا القرآن أن يكونوا أصدقاء مقربين لنا، وتوضح لنا الآيات فى سورة الممتحنة عن من ينهانا القرآن :
{لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.
وإستخدام “إنما” فى الآية الآخيرة هو أسلوب قصر وإستثناء أى لا ينهى الله تعالى عن صداقة أحد ولا عن معاملته بالحسنى إلاعن هؤلاء الذين {قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ }, فمن يمنع المسلمين من مصادقة اليهود و النصارى الذين لم يقاتلونا فى الدين ولم يخرجونا من ديارنا هو كاذب على الله و رسوله لأنه يستقطع من القرآن ما يفيد أغراضه الداعية للكراهية وينسى أويتناسى آيات القرآن الأخرى فهو كالذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض :
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚفَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ} .
وهو من أتباع الشيطان لأنه يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين البشر {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ}، وهو من الذين جعلوا كتاب الله كقراطيس يبدى بعض آياتها و يخفى الكثير منها {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} ليضلوا عباد الله عن طريق السلام والمحبة، و أخيراً ليس آخراً هو من الذين جعلوا القرآن عضين أى قصاقيص يأخذ ما يريد ويترك ما لايريد {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ليؤيد نوازع الشر بداخله.
فآيات الله واضحة جلية فى سورة الممتحنة أن من لم يقاتلنا فى الدين ولم يخرجنا من ديارنا و لم يطردنا منها فعلينا بره والقسط إليه، والبر المذكور فى آية سورة الممتحنة {أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } هو واحد من أرقى درجات المحبة والمعاملة بالحسنى و الذوق والرقة كما ذكرالله عن نبيه يحي – و ما أدراك ما يحي – فمدحه بقوله {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} فالبر هو أرقى درجات المعاملة.
وخلاصة القول أن أداة النهى “لا” فى هذه الآية والتى تنهى عن موالاة اليهود والمسحيين {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ} إنما تنهانا فقط عن هؤلاء الذين قاتلونا فى الدين وأخرجونا من ديارنا وظاهروا على إخراجنا أى ساعدوا الآخرين على ذلك فلا يجوز إستخدام هذه الآية لبث جذور الكراهية ضد الآخرين.
يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِى ٱللَّهُ بِقَوۡمٍ۬ يُحِبُّہُمۡ وَيُحِبُّونَهُ ۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِينَ يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآٮِٕمٍ۬ۚ ذَٲلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٲسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)
(54 ) كان الرد الإلهى على {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} أنه سيأتى بقوم يحبهم و يحبونه ليؤكد أنه غنى عن العالمين و أنه أعطى الحرية للجميع فى الإيمان به أوعدم الإيمان به {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ} وبذلك كفل الله حرية العقيدة، وقوله {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أى لهم كرامه فلا يهينون كرامتهم، و الآية لا ينبغى أن تفهم أنها دعوة للكبر وإظهار العجرفة أوالغرور فالله تعالى قال {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} و قال عن عباده الصالحين :
{وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا }. فالعزة كما ذكرنا لا تكون بالغروروالكبروإنما تكون بأن يحافظ الإنسان على كرامته فلا يضع نفسه فى موقف يهين كرامته.
وجدير بالذكر أن الآية عرفت كلمة{الْكَافِرِينَ} ب “ال” لتخصص المعنى فلو أراد الله التعميم لأستخدم الله تعبير”من كفر”.
وذكرت الآية تعبير {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أى يبذلون الجهد فى البحث للوصول الى الذات الإلهية {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وأعظم جهد يبذله الإنسان لإقتحام العقبة التى تعيق وصوله الى الله و قبوله لديه هو كما ذكرت الآية {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} ففى بذل الجهد (أى الجهاد) لفك الرقاب أو إطعام المساكين لاينبغى للإنسان أن يخاف فى الله لومة لأئم.
والجهاد له عدة معان كما يلى :
- مقاومة المعتدين الذين يبدأوا العدوان فلا يحق لمسلم أن يبدأ هو عدواناً على الآخرين {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ويحق له الدفاع عن نفسه فى حالة واحدة فقط وهى إذا تم الإعتداء عليه, فالجهاد الحقيقى – فى هذا المعنى – هو عملية دفاعية لإنقاذ الإنسان من الهلاك ولا يحق لأحد أن يستخدم هذا التعبير لتبرير إعتدائه على الآخرين فالدفاع عن النفس مشروع فى كل القيم الإنسانية أما الإعتداء فهو منكر ومرفوض فيها جميعاً و هو يخرج الإنسان عن ملة الإسلام و التى تعنى كما ذكرنا سابقاً صناعة السلام فى الأرض و العيش فى سلام مع الآخرين.
- جهاد النفس ضد الشهوات و نوازع الشر (رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر ألا وهو جهاد النفس ” حديث شريف ” ) .
- محاولة الوصول الى الله و معرفته عن طريق التأمل فى آياته و عجائبه فى الخلق {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.
- الدعوة الى الله بالقرآن – و ليس بالسيف {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } و الهاء هنا فى كلمة به تعود على القرآن, فالجهاد الحقيقى يكون بالكلمة و ليس بالعنف أو بالغلظة { ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }.
- إنفاق المال لإطعام المحتاجين والضعفاء {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ}
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ ۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٲكِعُونَ (٥٥) وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ (٥٦) يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمۡ هُزُوً۬ا وَلَعِبً۬ا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَٱلۡكُفَّارَ أَوۡلِيَآءَۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (٥٧) وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوً۬ا وَلَعِبً۬اۚ ذَٲلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٌ۬ لَّا يَعۡقِلُونَ (٥٨) قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ هَلۡ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلَّآ أَنۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلُ وَأَنَّ أَكۡثَرَكُمۡ فَـٰسِقُونَ (٥٩)
(55) {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} من معانى الصلاة أنها صلة دائمة بين العبد و ربه, فإن صلاة العابد الزاهد العاشق لله هى صلاة لاتنقطع وهى دائمه فى كل لحظة و فى كل حين {الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}،
وقد جاءت كلمة الصلاة بعدة مفاهيم فى القرآن كما يلى :
المفهوم الأول: أنها وسيلة هدفها الرئيسى هو ذكر الله { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي }.
المفهوم الثانى : هى وسيلة لتطهير النفس البشرية لتمنعها من فعل الشركما ذكر الله تعالى فى قوله {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}.
المفهوم الثالث : تأتى الصلاة أيضاً بمعنى الدعاء للشخص ومباركته كما فى الآيات {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (أمر الله تعالى نبيه بالصلاة على المؤمنين أى بالدعاء لهم )، ونرى نفس المعنى فى قوله تعالى{ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ } ( أى يبارك الله عملهم الصالح ) بالإضافة الى { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا }.
المفهوم الرابع : قد تأتى الصلاة أيضاً بمعنى التسبيح كما فى{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ }، وتبعاً لهذه الآية فإن تسبيح الله وذكر أسمه والتأمل فى ملكوته هو أحد أنواع الصلاة.
المفهوم الخامس : هو أن الصلاة واحدة من العبادات تهدف الى التقرب الى الله كما فى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.
(56) حزب الله الحقيقيون هم كل من آمن به وأحبه من قلبه وإنتصرعلى نزعات الشر بداخله فأعلن العداء على الشيطان {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}. وحزب الله ليس مقصورا على أمة واحدة أو زمن واحد بل هو ممتد عبر العصور ليشمل جميع رسل الله ومن يتبعهم {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، والغلبة سواءً فى هذه الآية أو فى آية {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ليست هى الغلبة العسكرية فقط كما يظن البعض بل هى غلبة الحق على الباطل {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ}, وغلبة النور على الظلام وإنتصار الحب على الكراهية .
(57) إستخدام القرآن “لا” الناهية فى تعبير {لَا تَتَّخِذُوا}, والنهى هنا مشروط كما ذكر فى سورة الممتحنة بالقتال فى الدين والإخراج من الأرض والمظاهرة عليه (أى المساعدة)
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.
وقد أوضح القرآن فى الآية التالية أنه يتحدث عن قوم بعينهم كانوا يستهزؤن ويسخرون من المؤمنين الأوائل {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا}.
قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ۬ مِّن ذَٲلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡہُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ شَرٌّ۬ مَّكَانً۬ا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ (٦٠) وَإِذَا جَآءُوكُمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِٱلۡكُفۡرِ وَهُمۡ قَدۡ خَرَجُواْ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكۡتُمُونَ (٦١) وَتَرَىٰ كَثِيرً۬ا مِّنۡہُمۡ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٲنِ وَأَڪۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (٦٢) لَوۡلَا يَنۡہَٮٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ عَن قَوۡلِهِمُ ٱلۡإِثۡمَ وَأَكۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ (٦٣) وَقَالَتِ ٱلۡيَہُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيہِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرً۬ا مِّنۡہُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَـٰنً۬ا وَكُفۡرً۬اۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَہُمُ ٱلۡعَدَٲوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَـٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارً۬ا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِى ٱلۡأَرۡضِ فَسَادً۬اۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ (٦٤) وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡڪِتَـٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَڪَفَّرۡنَا عَنۡہُمۡ سَيِّـَٔاتِہِمۡ وَلَأَدۡخَلۡنَـٰهُمۡ جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ (٦٥)
(60) {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} هذا الوصف نزل فقط فى أهل قرية أو طائفة بعينها من بنى إسرائيل لأنهم عصوا أوامر الله فى التوراة فى زمانهم كما قالت الآية { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} و قد أوضح لنا القرآن ما فعله هؤلاء فى قوله { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، ولا يجوز تعميم مثل هذا المعنى السلبى على كل بنى إسرائيل و ذلك للأسباب التالية :
أولاً : أن منهم الصالحون بإعتراف القرآن الكريم نفسه {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ }.
ثانياً : أن بنى إسرائيل فيهم الكثير من الأنبياء مثل يوسف وموسى وهارون وداود و سليمان و أيوب و زكريا و يحى و عيسى عليهم السلام فمن أهان بنى إسرائيل كلهم ولم يراعى تخصيص الآية فقط فى القرية التى كانت حاضرة البحر المذكورة فى سورة الأعراف آية (163) فقد أهان كل هؤلاء الأنبياء والرسل.
ثالثاً : أن القرآن لا يجيز أن يحمل الأبناء ذنب الآباء فلا يحق لأحد أن يحاسب بنى إسرائيل فى العصر الحالى ببعض المواقف التاريخية التى قد تكون قد حدثت من بعض أسلافهم.
وعلينا أن نلاحظ أن إستخدام القرآن لتعبير{الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} قد يكون إستخداماً مجازياً يعنى التقليد بغير تفكير “كالقرد” الذى يقلد الفعل دون أن يفكر, وقبول القبح بدلاً من الجمال (كما هو معروف عن الخنازير)، والقرآن ملئ بالرمز والمجاز فى الكثير من الآيات والمعنى الذى ينبغى علينا أن نتعلمه هنا أننا لا ينبغى أن نقلد من سبقونا بغير فكر حتى لا نكون كالقردة وأن لا نستبدل آيات الله الجميلة ومعانيها السامية فى القرآن والتى تحض على الخير و السلام و المحبة بتفسيرات خاطئة للدين وقبيحة لأنها تدعوا الى الكراهية والبغضاء.
فمن إستبدل الحَسَنَ بالسئ والجمال بالقبح فهو كالخنزير الذى يفضل البشاعة والقبح , فشتان بين قوله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} وبين هؤلاء الذين يريدون إجبار الناس على أداء الشعائر, وشتان بين قوله تعالى{فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} وبين من يريدون حرمان البشر من أبسط حقوقهم فى حرية الفكر والعقيدة, وشتان بين من يعمل على التآلف بين الشعوب والحضارات عملا بقوله تعالى{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} و بين من يدعوا للتنابز والتناحر بين الشعوب, وشتان بين من يحرم العدوان فيقول {وَلَا تَعْتَدُوا} وبين من يدعو الى العدوان على الآخرين بإسم الدين – فمن أستبدل المعانى السامية المذكورة سابقاً بالعنف والغلظة والإكراه فهو كالخنزير الذى فضل البشاعة على الجمال.
(62) { وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ } لاحظ إستخدام “هم” فى كلمة منهم و التى تفيد تخصيص المعنى فى فئة بعينها.
(63) تشير هذه الآية الى مسئولية رجال الدين فى نصيحة المجتمع وليس فى إجبارهم فقال القرآن {يَنْهَاهُمُ} ولم يقل “يجبرهم” – ليؤكد على المعنى الإلهى الخالد {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّۚ}. فلا الله يجبر عباده على شئ :{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ولاالرسول له الحق فى إجبار الناس على عبادة الله :{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}, و{وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ}, و{أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.والنصيحة المخلصة وليس بالإجبار من رجال الدين هو مسؤلية رجال الدين, وعلى كل من يدعو الى الله أن يتبع قوله تعالى { ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }.
(64) يستخدم الكثير منا كلمة “اليهود” للتعبير عن كل بنى إسرائيل وعلى النقيض من ذلك فقد إستخدم القرآن الكريم عدة تعبيرات لغوية عندما تحدث عن بنى إسرائيل وكل واحد من هذه التعبيرات له معناه و مدلوله الخاص ويتحدث عن فئة معينة.
و هذه بعض التعبيرات القرآنية المستخدمة فى هذا المضمار :
1-” بنى إسرائيل ” هم أبناء سيدنا يعقوب والذى يسمى أيضاً سيدنا إسرائيل :
{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } ومن بنى أسرائيل يوسف وموسى وهارون وداود سليمان وأيوب و زكريا و يحي و المسيح عليهم جميعاً سلام الله.
2-” الذين هادوا ” هم الذين رجعوا الى الله من بنى إسرائيل فقالوا إنا هدنا اليك (أى رجعنا إليك) وقد أطلق الله عليهم ذلك التعبير لأنهم رجعوا اليه كما ذُكر فى قوله تعالى {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَۚ}.
3-” أصحاب السبت ” هم مجموعة صغيرة من بنى إسرائيل تمثل أهل قرية منهم حاولوا أن يخدعوا الله و يتحايلوا على آيات التوراة و أوامره فيها بعدم العمل يوم السبت (أو كما يسمى حفظ يوم السبت )، وقد ذكرت قصة هؤلاء القوم فى قوله تعالى :
{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون } وهؤلاء هم المعنيون فى قوله { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ }.
4-” اليهود” هم طوائف محدودة من بنى إسرائيل كانت موجودة فى الجزيرة العربية وقت ظهور الإسلام فيها وهؤلاء هم الذين قالواعُزير إبن الله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وهم الذين قالوا يد الله مغلولة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ} وذلك يفرقهم عن باقى بنى إسرائيل والذين لم يقولوا مثل هذه الأشياء.
و بالتالى فإن إطلاق كلمة ” يهود ” على كل بنى إسرائيل ليس دقيقاً و يخالف النص القرآنى والواقع .
وَلَوۡ أَنَّہُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَٮٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡہِم مِّن رَّبِّہِمۡ لَأَڪَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡہُمۡ أُمَّةٌ۬ مُّقۡتَصِدَةٌ۬ۖ وَكَثِيرٌ۬ مِّنۡہُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ (٦٦) ۞ يَـٰٓأَيُّہَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُ ۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَہۡدِى ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَـٰفِرِينَ (٦٧) قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَىۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَٮٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرً۬ا مِّنۡہُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَـٰنً۬ا وَكُفۡرً۬اۖ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِينَ (٦٨) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّـٰبِـُٔونَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأَخِرِ وَعَمِلَ صَـٰلِحً۬ا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ (٦٩) لَقَدۡ أَخَذۡنَا مِيثَـٰقَ بَنِىٓ إِسۡرَٲٓءِيلَ وَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡہِمۡ رُسُلاً۬ۖ ڪُلَّمَا جَآءَهُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُہُمۡ فَرِيقً۬ا ڪَذَّبُواْ وَفَرِيقً۬ا يَقۡتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوٓاْ أَلَّا تَكُونَ فِتۡنَةٌ۬ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ ڪَثِيرٌ۬ مِّنۡہُمۡۚ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ (٧١)
(66 – 68) يأمر الله تعالى أهل الكتاب فى هذه الآيات بإقامة التوراة والإنجيل لأنهما كما وصفهما القرآن بأنهما نور من الله، و التوراة و الإنجيل والقرآن تتفق على مبادئ أساسية للإنسانية جمعاء, فكلها نور جاء من نفس المشكاة ومن هذه المبادئ المتفق عليها إحترام النفس البشرية, وعدم الظلم, ومنع العدوان, وحب الله, ومعاملة الآخرين بالحسنا. ومن يتبع هذه المبادئ الإلهية من البشر فإن وعد الله لهم هو البركه :
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}، و تعبير{ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } يؤكد مرة أخرى على أنه لا يجوز تعميم الآيات التى تصف بعض أهل الكتاب عليهم جميعاً، فالقرآن وضح لنا أن منهم أمة مقتصدة { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } و منهم الصالحون { مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ } و أنهم ليسوا سواء {لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ }.
(69) تنص هذه الآية صراحة على أن شروط القبول عند الله تعالى هى الإيمان بوجوده , وعمل الخيرات , والإيمان بيوم الحساب :{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
(70 – 71) فى بعض العصور كذَّب البعض من بنى إسرائيل رسلهم وقد ذكرذلك أيضاً فى العهد القديم (والذى يشمل التوراة وكتب النبياء)، فيذكر أن أحد أنبياء بنى إسرائيل يسمى أشعياء عتب على البعض منهم على الأهتمام بالطقوس بدلاً من رعاية اليتامى والأرامل، وذلك المعنى الرائع المذكور فى التوراة والذى يدعوا الى الإهتمام باليتامى والأرامل قبل الطقوس والشعائر يتفق تماماً مع ما ورد فى الإنجيل و القرآن, فذكر فى الإنجيل :
“الديانه الوحيدة المقبولة عند الله هى رعاية اليتامى والأرامل فى محنهم وأن يحفظ الإنسان نفسه من دنس العالم”,
وذكرالقرآن فى لحظة عتاب الله للبشر يوم القيامة {كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ *وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ}، ومن كل ذلك نتعلم أن كتب الله كلها أجمعت على تفضيل العمل الصالح وعمل الخيرات عن عمل الطقوس وأداء الشعائر.
لَقَدۡ ڪَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِيحُ يَـٰبَنِىٓ إِسۡرَٲٓءِيلَ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّى وَرَبَّڪُمۡۖ إِنَّهُ ۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَٮٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ۬ (٧٢) لَّقَدۡ ڪَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـٰثَةٍ۬ۘ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّآ إِلَـٰهٌ۬ وَٲحِدٌ۬ۚ وَإِن لَّمۡ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسۡتَغۡفِرُونَهُ ۥۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ۬ رَّحِيمٌ۬ (٧٤) مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٌ۬ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ ۥ صِدِّيقَةٌ۬ۖ ڪَانَا يَأۡڪُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ ڪَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأَيَـٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ (٧٥) قُلۡ أَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَڪُمۡ ضَرًّ۬ا وَلَا نَفۡعً۬اۚ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ (٧٦) قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡڪِتَـٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِى دِينِڪُمۡ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوٓاْ أَهۡوَآءَ قَوۡمٍ۬ قَدۡ ضَلُّواْ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّواْ ڪَثِيرً۬ا وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ ٱلَّذِينَ ڪَفَرُواْ مِنۢ بَنِىٓ إِسۡرَٲٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُ ۥدَ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۚ ذَٲلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّڪَانُواْ يَعۡتَدُونَ (٧٨) ڪَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنڪَرٍ۬ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا ڪَانُواْ يَفۡعَلُونَ (٧٩) تَرَىٰ ڪَثِيرً۬ا مِّنۡهُمۡ يَتَوَلَّوۡنَ ٱلَّذِينَ ڪَفَرُواْۚ لَبِئۡسَ مَا قَدَّمَتۡ لَهُمۡ أَنفُسُہُمۡ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَفِى ٱلۡعَذَابِ هُمۡ خَـٰلِدُونَ (٨٠) وَلَوۡ ڪَانُواْ يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلنَّبِىِّ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مَا ٱتَّخَذُوهُمۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَـٰكِنَّ ڪَثِيرً۬ا مِّنۡہُمۡ فَـٰسِقُونَ (٨١) ۞ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٲوَةً۬ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةً۬ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَـٰرَىٰۚ ذَٲلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانً۬ا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَڪۡبِرُونَ (٨٢) وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ (٨٣) وَمَا لَنَا لَا نُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡحَقِّ وَنَطۡمَعُ أَن يُدۡخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلصَّـٰلِحِينَ (٨٤) فَأَثَـٰبَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّـٰتٍ۬ تَجۡرِى مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيہَاۚ وَذَٲلِكَ جَزَآءُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (٨٥) وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَڪَذَّبُواْ بِـَٔايَـٰتِنَآ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَحِيمِ (٨٦)
(72) ذكر العلامة الشوكانى فى تفسيره للقرآن أن الكفر المقصود فى تعبير {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } هو فى تخصيص الذات الإلهية وتحديدها فى جسد المسيح علية السلام فقط، والكثير من المسيحيين لا يرون أن الله محدد فقط فى هذا الجسد وأن المسيح هو كلمة الله المتجسدة وروح منه وهذا المفهوم يتفق مع التعبير القرآنى الذى وصف المسيح بأنه كلمة الله وروح منه {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}.
وما يهم فى الأمر كله أنه حتى لو نظرت الى صاحب مفوم آخرعلى أنه كافر فإن ذلك لا يبيح لك أن تكرهه أو تعامله بسوء أوتعتدى عليه فقد قال الله فى كتابه العزيز (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ )(أى أنها قضية تخص الشخص و حده و لا تخص أحداً آخراً) } و قال سبحانه (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ) (أى أن الله اعطى الأنسان الحق فى الكفر و أنه هو وحده من حقه أن يحاسبه عليه )، و قد نكون نحن كافرين ببعض ما يؤمن به غيرنا وهم كافرون أى رافضون لبعض ما نؤمن به نحن وذلك لا ينبغى أن يجعلنا نكره بعضنا البعض فالله وحده صاحب الحق فى أن يحكم بيننا يوم القيامة {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
ومن الأفضل للإنسان أن ينشغل بذكر الله ومعاملة الآخرين بالحسنى والعطف على المحتاجين والتأمل فى ملكوت السماوات والأرض بدلاً من أن يشغل نفسه بكيف سيحاسب الآخرون فحتى الرسول نفسه لايعرف ذلك {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ }، فإن كان النبى لا يدرى وهو رسول الله ماسيفعل به ولا بنا فمن نحن حتى ندرى؟
(73-74) {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} تعبير “ثلاثة” إن كان المقصود به ثلاثة آلهة مختلفة عن بعضها البعض وأن الله واحد من هذه الآلهة فهو مرفوض فى القرآن وفى كل الأديان السماوية {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}، وكان إعتراض القرآن على القول أن الله ثالث ثلاثة لأنه يعنى أن الله واحد من ثلاثة آلهة مختلفة (كما يعنى تعبير ثانى أثنين إذ هما فى الغار) {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} أن محمداً كان واحداً من أثنين مختلفين تماماً عن بعضهم البعض أى هو وأبو بكر الصديق). أما إذا كان المقصود منها ثلاثة صفات أوتعبيرات عن نفس الإله الواحد أوبمعنى آخرهى نظرة مجازية لا حرفية فإن ذلك أمر يختلف تماماً، ونحن كمسلمين كما ذكرنا فى الشرح السابق نصف الله بالعديد من الصفات وبأن له يد{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}, وأعين {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} و قد يرى البعض فى ذلك تجسيداً ولكن ذلك لا يعنى فى الحقيقة أننا نجسده, وكذلك فإن غيرنا أيضاً قد يصفون الله بتعبيرات مجازية قد يظن البعض أنها تعدد آلهة أوتجسيد لله ولكن هى فى حقيقتها تفهم بصورة أخرى عند أصحاب هذه الديانات لا تتناقض مع توحيد الله.
فعلينا قبل إتهام الآخرين أو نعتهم بالكفر والشرك أن نفهم منهم كيف ينظرون هم للأشياء, فالبعض قد يرانا و كأننا نعبد الكعبة حينما نتجه إليها وقت الصلاة والحقيقة أننا لانعبد حجارة على الإطلاق بل نعبد الله الواحد وإن سألونا نستطيع توضيح الأمر لهم , وكذلك قد نظن أن غيرنا يعبد صورة أو تمثال وإن سألناهم قد يتضح لنا شئ آخر، فكما أن لنا مفاهيم مجازية فى ديننا فإن الآخرين أيضاً لهم مفاهيم مجازية فى عقائدهم و أديانهم.
(77) ينهى الله عز وجل فى هذه الآية عن الغلو فى الدين أى إفتراء غير الحق و إتباع السابقين بغير تفكير، وإن كان هذا الكلام موجهاً لبعض أهل الكتاب فى عهد الرسول فعلينا أن نتعلم من ذلك عدم التطرف فى مفهومنا للدين أى عدم الغلو فيه.
(78 – 81) نلاحظ أن إستخدام تعبير {الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ} تحدد فئة بعينها منهم ولا تشملهم كلهم، فبنو إسرائيل فيهم كما قال الله الكثير من الأنبياء والمرسلين مثل يوسف و موسى و هارون وغيرهم و قد قال تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
فلا يجوز تعميم الآيات التى تتكلم عن فئة منهم على الجميع، فكما قال القرآن منهم الصالحون{مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ} وقل تعالى :
{مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
(82) سُمى أتباع السيد المسيح ب “النصارى” لأنهم هم الذين قالوا نحن أنصار الله فى قوله تعالى :{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}. فكلمة “نصارى” فى القرآن تعنى أنصار الله وقد أمرنا الله تعالى أن نكون نحن أيضاً من أنصار الله فكما قالت الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}. وجدير بالذكر هنا أن نتذكر قوله تعالى عن أتباع المسيح عليه السلام {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
(86) تأتى كلمة ” الكفر ” بعدة مفاهيم فى القرآن منها ما يلى :
المعنى الأول : الكفر هو الظلم { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.
المعنى الثانى : هو الطغيان والإجرام والبطش وتهديد أمان و سلام الآخرين {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}.
المعنى الثالث :عدم شكر الله على نعمه {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.
المعنى الرابع : عدم الإيمان بوجود الله {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}.
المعنى الخامس : عدم تنفيذ أوامرالله {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، فعدم تنفيذ أحكام الله وآياته – مثل تلك التى تحثُ على إكرام اليتيم {كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ }, ومعاملة الناس بالحسنى {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}, وإحترام الحرية الفكرية والدينية للآخرين {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} – هو أحد أنواع الكفر.
يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَـٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ (٨٧) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً۬ طَيِّبً۬اۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِىٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ (٨٨)
(87) يؤكد القرآن فى هذه الآية تحريم الإعتداء على الآخرين {وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وعدم حب المعتدين هى إحدى خصائل و صفات الله تعالى – و هو الذى يغير ولا يتغير – فصفاته ثابتة راسخة, فهو يرفض العدوان بكل صوره، ولفهم مشروعية القتال فى بدء الإسلام علينا مراجعة الشرح التالى لمفهوم القتال الذى شرع للدفاع عن النفس فى مرحلة تاريخية فى بدء الدعوة :
- دفاع عن النفس حينما يبدء الآخرون المعتدين القتال {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} و {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
- ألا يكون عدواناً على الآخرين {وَلَا تَعْتَدُوا}.
- ألا يكون لإكراه الآخرين على الدين {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.
- ألا يكون فيه ظلم لأحد {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}.
- معاملة الأسرى بالحسنى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.
- أن يٌغيث العدو إذا إستغاث به فى لحظة ما {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ}.
- ألا يستعبد الأسرى و أن يعاملهم كما ذكر القرآن {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}.
- أن يجنح للسلم فوراً إذا عرض عليه {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}.
- ألا يكسر ميثاقاً مع أحد حتى لوكان ذلك لنصرة مسلمين مثله “{وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}.
ألا يقتل نفساً بغير نفس{مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ} فالقتل العشوائى أوالعمليات الإنتحارية التى تؤدى الى قتل ولو برئ واحد كطفل لم يذنب أو إمرأة عجوز لم تخطىء يخرج الإنسان من ملة الإسلام و يحشره فى جهنم فى زمرة المجرمين والقتلة.
لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِىٓ أَيۡمَـٰنِكُمۡ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُڪُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَـٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُ ۥۤ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٍ۬ۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ۬ۚ ذَٲلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيۡمَـٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَـٰنَكُمۡۚ كَذَٲلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (٨٩) يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَـٰمُ رِجۡسٌ۬ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَـٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَـٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٲوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِى ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَہُونَ (٩١)
(89) {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أى من أفضله, فأوسط تعنى فى اللغة أفضله, كما قال الله فى سورة القلم {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} وأوسطهم هنا تعنى أفضلهم، ودعوة القرآن هنا لتحرير الرقاب كوسيلة للتكفير عن الحنث فى اليمين {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ} يؤكد مرة أخرى أن إرادة الله هى المساواة الكاملة للبشر وإلغاء الرق من العالم و من يدعوا لعكس ذلك أى يدعوا للرق فهو يخالف روح القرآن ويتحدى آياته، ونلاحظ أن القرآن أستخدم صورة النكرة أى ليست المعرفه ب “ال” حتى يعمم المعنى على جميع البشر سواء كانت رقبة مسلمة أو مسيحية أو يهودية أوعلى أى ديانة أو عقيدة أخرى فالأمر هنا ليس خاصاً بتحرير رقاب المسلمين فقط بل هو أمر عام بالمشاركة فى تحرير أى رقبة فى أى بقعة من بقاع الأرض مهما كان دينها، وكذلك الحال فى إستخدام تعبير {عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} فهى ليست مُعرفه حتى يكون الإطعام لأى مسكين أيّاً كان دينهم أوعقيدتهم أوفكرهم فالكل هم خلق الله, وعمل الخيرات ينبغى أن يكون للجميع {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.
(90) ” الخمر ” هو كل ما يخامرالعقل مثل المسكرات والمخدرات, وقد تعنى أيضاً حالة ذهاب العقل، وسميت خمراً لأنها مشتقة من كلمة خمار وهوغطاء الرأس و سميت خمراً لأنها تغطى العقل كما يغطى الخمار الرأس بمعنى أنها تجعل الإنسان غير قادر على التفكير السوى، والمشكلة ليست فى تناول المادة نفسها بل فى تأثيرها على العقل و الذى يجعل الإنسان غير مسيطر على تصرفاته وإنفعالاته و نزواته، وأى مادة تفقد الإنسان السيطرة على عقله و على تصرفاته فهى خمرٌ، وقد يضطر الإنسان أحياناً أن يستخدم دواءاً يذهب بعقله وقدرته على التفكير وفى هذه الحالة فإن الأمر مباح له عملاً بقوله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ }، وتتكلم الآية عن “الميسر” وهو القمار والذى يحدث صراعاً بين الناس على موائده، أما ” الأنصاب ” فالمقصود بها عبادة الأصنام ظناً أنها خلقت السماوات والأرض، أما “الأزلام” فهى وسيلة تستخدم الحظ لإتخاذ القرار للإنسان بدلاً من التفكير والتخطيط، فالله تعالى يشجع الإنسان أن يفكر ويخطط لمستقبله بدلاً من إتباع الحظ.
(91) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} العلة فى التحريم هنا هى أن الأشياء المذكورة فى الآيات السابقة كانت توقع العداوة والبغضاء بين الناس, وهذا يؤكد لنا أن محاولة البعض إيقاع العداوة و البغضاء بين البشر أياً كانت وسيلته فهى محرمة عند الله تعالى، فمن يثير النعرات الطائفية ويحاول أن يثير البغضاء بين أتباع الدين الواحد أو بين طوائفه المختلفة أو بين أهل دين ودين آخر – فقد إرتكب جرماً أشد من وزر شرب الخمر ولعب الميسر.
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَـٰغُ ٱلۡمُبِينُ (٩٢) لَيۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جُنَاحٌ۬ فِيمَا طَعِمُوٓاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحۡسَنُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (٩٣) يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَىۡءٍ۬ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُ ۥۤ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ ۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٲلِكَ فَلَهُ ۥ عَذَابٌ أَلِيمٌ۬ (٩٤) يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٌ۬ۚ وَمَن قَتَلَهُ ۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدً۬ا فَجَزَآءٌ۬ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٍ۬ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَـٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٌ۬ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٲلِكَ صِيَامً۬ا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ۬ ذُو ٱنتِقَامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُ ۥ مَتَـٰعً۬ا لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمً۬اۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِىٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ (٩٦) ۞ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ قِيَـٰمً۬ا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّہۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَٱلۡهَدۡىَ وَٱلۡقَلَـٰٓٮِٕدَۚ ذَٲلِكَ لِتَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَمَا فِى ٱلۡأَرۡضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىۡءٍ عَلِيمٌ (٩٧) ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ۬ رَّحِيمٌ۬ (٩٨) مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلۡبَلَـٰغُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ (٩٩)
(92) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} طاعة الرسول هى بتنفيذ حكمه وكما قال القرآن فإن الرسول لا يحكم إلا بكتاب الله {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} و{فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} و{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وكما ذكرنا فإن الرسول – إن طلب منه – يحكم بكتاب الله ومبادئه ولا يحكم برأيه الشخصى، ولأجل ذلك فإن الله تعالى أستخدم ضمير المفرد فى هذه الآية {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} فقال يرضوه و ليس يرضوهما فرضاهما شئٌ واحد لأنه يكون بإتباع كتاب الله الذى أنزل على رسوله.
(94 – 98) {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} العبرة و الهدف من هذه الآيات هو تعليم المؤمنين إحترام الحياة حتى حياة الحيوان، ففى فترة الحج لا يحل قتل الحيوان أوالطير ويعطى الأمان للجميع فى هذه الفترة ليحل السلام على الأرض فيكون تفعيل السلام فى الأرض مثلاً للناس لكى يحتذوا به ويتبعوه، فالسلام هو إرادة الله فى الأرض منذ بدء الخليقة فهو القائل{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} وهو الذى سمى نفسه السلام {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} وهو الذى وعد من آمن به أن يدخل دار السلام أى الجنة {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
(99) أستخدم الله تعالى فى الآية الكريمة {أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} تعبير “إنما” وهو أسلوب قصر أى ليس على الرسول إلا أن يبلغ رسالة الله إلى الناس لاأقل ولا أكثر، فلو تقوّل الرسول علي الله شيئاً فالقرآن وصف ذلك كما يلى :{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } ولو كتم آيات الله وقع عليه قول الله تعالى :
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.
وجدير بالذكر أن نذكر أيضاً أن الرسول ليس من حقه أن يأخذ أجراً مقابل هذا البلاغ {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}.
قُل لَّا يَسۡتَوِى ٱلۡخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ كَثۡرَةُ ٱلۡخَبِيثِۚ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يَـٰٓأُوْلِى ٱلۡأَلۡبَـٰبِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ (١٠٠) يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسۡـَٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسۡـَٔلُواْ عَنۡہَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡہَاۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ۬ (١٠١) قَدۡ سَأَلَهَا قَوۡمٌ۬ مِّن قَبۡلِڪُمۡ ثُمَّ أَصۡبَحُواْ بِہَا كَـٰفِرِينَ (١٠٢) مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٍ۬ وَلَا سَآٮِٕبَةٍ۬ وَلَا وَصِيلَةٍ۬ وَلَا حَامٍ۬ۙ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ (١٠٣) وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسۡبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ شَيۡـًٔ۬ا وَلَا يَہۡتَدُونَ (١٠٤) يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعً۬ا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (١٠٥) يَـٰٓأَيُّہَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَہَـٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٍ۬ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِى ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَـٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِى بِهِۦ ثَمَنً۬ا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۙ وَلَا نَكۡتُمُ شَہَـٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذً۬ا لَّمِنَ ٱلۡأَثِمِينَ (١٠٦) فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰٓ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّآ إِثۡمً۬ا فَـَٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَحَقَّ عَلَيۡہِمُ ٱلۡأَوۡلَيَـٰنِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَہَـٰدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَہَـٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَيۡنَآ إِنَّآ إِذً۬ا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ (١٠٧) ذَٲلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِٱلشَّہَـٰدَةِ عَلَىٰ وَجۡهِهَآ أَوۡ يَخَافُوٓاْ أَن تُرَدَّ أَيۡمَـٰنُۢ بَعۡدَ أَيۡمَـٰنِہِمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡمَعُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَہۡدِى ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِينَ (١٠٨) ۞ يَوۡمَ يَجۡمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبۡتُمۡۖ قَالُواْ لَا عِلۡمَ لَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ (١٠٩)
(100) {الْخَبِيثَ} هو ما يرفضه الضمير و {الطَّيِّبِ} هو ما يقبله ضميرالإنسان ويرضاه لنفسه, فالله تعالى هو خالق النفس البشرية وهو الذى أعطاها القدرة أن تفرق بين الخبيث و الطيب و بين الجمال والقبح و بين الرحمة و القسوة و بين النور والظلام فهو القائل فى كتابه العزيز {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}.
(104) عاتب الله على المشركين فى عهد الرسول أنهم كانوا يقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا وهذه صفة الجهلاء فى كل العصور أنهم يريدون أن يحتكموا الى ما وجدوا عليه آباءهم دون تفكير ودون إستخدام العقل، ونلاحظ هنا أن القضية أوالمشكلة ليست هل كان آباؤهم على الحق أم لابل كانت هى فى مبدأ الإتباع بغيرعلم :
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
فإتباع الآباء بغيرعلم وبغير تفكيرهو مرفوض عند الله تعالى حتى لو كانوا على الحق فلابد أن يكون الإنسان على بصيرة لما يتبع، لأن لوقبلنا مبدأ الإتباع الأعمى للآباء بغيرتفكير فإن المتبع الأعمى الذى هو على الحق اليوم كان سيكون على الباطل لو كان آباؤه على الباطل، فالأمر ليس قضية حظ إن كان الآباء على الباطل أم على الحق فإتباعهم بغيرعلم وتقليدهم بصورة عمياء هو شئ لا يقبله الله تعالى، فلو كان إبراهيم إتبع آباءه بدون تفكير لأصبح عابداً للأصنام.
(105) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } توضح هذه الآية مبدءاً هاماً ألا وهو أن الإنسان لا ينبغى له أن يشتغل بالحكم على الآخرين وهل هم فى ضلال أم لا وذلك لأن ضلال الآخرين شئ لا يضره ولايخصه {لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ} ولذلك فعلى الإنسان أن يشتغل بتحسين نفسه و تنقية روحه من الأفكارالشريرة بدلاً من أن يضيع وقته فى إنتقاد الآخرين و إتهامهم بالضلال.
(106 – 108) {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} تؤكد هذه الآيات على أننا لابد أن نقول كلمة الحق إذا دُعينا للشهادة وألا نكتم الحق لأغراض شخصية أو لأى سبب آخر.
(109) {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} توضح هذه الآية أنه حتى الرسل لا يعرفون الى يوم القيامة كيف أستجاب لهم أقوامهم فالله وحده هو الذى يعلم إجابة هذا السؤال لأنه هو الحى الذى يموت وهو الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فإذا كان الرسل حتى يوم الدين لايعرفون كيف سيحاسب الله البشر فكيف يسمح إنسان لنفسه أن يصدر أحكاماً على الناس وعلى الأمم الأخرى فى حين أن الرسل أنفسهم ليس لديهم هذا الحق وليس لديهم العلم الكافى ليصدروا أحكاماً على غيرهم من البشر، ففى ذلك اليوم المهيب لا يتدخل أحد فى حكمه {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ولاينطق أحد إلا بإذنه (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً). و فى هذه اللحظات المهيبة يسأل الله الرسل{مَاذَا أُجِبْتُمْ} فيقول {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.
إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَـٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱذۡڪُرۡ نِعۡمَتِى عَلَيۡكَ وَعَلَىٰ وَٲلِدَتِكَ إِذۡ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلۡمَهۡدِ وَڪَهۡلاً۬ۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡڪِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَٮٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِى فَتَنفُخُ فِيہَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِىۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَڪۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِىۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِىۖ وَإِذۡ ڪَفَفۡتُ بَنِىٓ إِسۡرَٲٓءِيلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَيِّنَـٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡہُمۡ إِنۡ هَـٰذَآ إِلَّا سِحۡرٌ۬ مُّبِينٌ۬ (١١٠) وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡہَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ (١١١) إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَـٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآٮِٕدَةً۬ مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن ڪُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (١١٢) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأۡڪُلَ مِنۡہَا وَتَطۡمَٮِٕنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَيۡہَا مِنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ (١١٣) قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآٮِٕدَةً۬ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدً۬ا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً۬ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلرَّٲزِقِينَ (١١٤) قَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّىٓ أُعَذِّبُهُ ۥ عَذَابً۬ا لَّآ أُعَذِّبُهُ ۥۤ أَحَدً۬ا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِينَ (١١٥) وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَـٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ مَا يَكُونُ لِىٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِى بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُ ۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُ ۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِى نَفۡسِى وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِى نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِى بِهِۦۤ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡہِمۡ شَہِيدً۬ا مَّا دُمۡتُ فِيہِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِى كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡہِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَىۡءٍ۬ شَہِيدٌ (١١٧) إِن تُعَذِّبۡہُمۡ فَإِنَّہُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (١١٨) قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّـٰتٌ۬ تَجۡرِى مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيہَآ أَبَدً۬اۚ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنۡہُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٲلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا فِيہِنَّۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىۡءٍ۬ قَدِيرُۢ (١٢٠)
(110) {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} الروح القدس تمثل روح الله التى حولت نبى الله عيسى عليه السلام الى المسيح الذى يمسح على المريض فيشفيه و يحى الموتى بإذن الله تعالى وأن يصنع من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله.
(116) كانت بعض الطوائف المسيحية فى عهد الرسول تعتقد أن الله تزوج وأنجب إبناً من خلال علاقة جسدية فرد القرآن بالآية الكريمة {أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ}، فكلمة إبن إذا فهمت بهذا المعنى الجسدى (أى صاحبة وولد كما ذكر القرآن) فهى غير مقبولة أما مفهوم كلمة أبن بمعنى روحى فقط لتعبرعن الكلمة والروح فهى لاتتعارض مع آيات القرآن التى تصف المسيح بأنه كلمة الله وروح منه، وفى اللغة تستخدم كلمة “إبن الصحراء “و” إبن البادية “ولاتعنى ابناً جاء من زواج أو إرتباط جسدى وكذلك الحال مع قول “الكلمة بنت الشفاه”، ونستخدم نحن المسلمين الكثير من المجاز فى التعبير عن الذات الإلهيه فنقول {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} و نقول {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} و{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} و نقول{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}, ولكننا فى واقع الأمر لا نرى الله جسداً له يد ووجه وأعين (تعالى الله عن ذلك) كما قد يظن البعض حينما يقرأ هذه الآيات، فكما نحن نفهم هذه المعانى فى صورة مجازية فمن حق غيرنا أيضاً أن يفهم تعبيرات دينه بصورة مجازية، وما يهم فى الأمر أنه حتى لو إختلفت مفاهيمنا الدينية عن مفاهيم غيرنا فإن ذلك ليس مدعاة لأن نكره الآخرين لإختلافهم عنا لأنه فى النهاية فإن الله – وليس نحن – هو الذى يحكم بين البشر{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، وقال الله لنا أيضاً:
{لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }.
فمعاملة من يختلف عنا لا ينبغى أن تكون إلا بالبر والقسط كما ذكر القرآن طالما لم يعتدوا علينا كما أوضحت الآيات.
(118) إذا كان سيدنا عيسى علية السلام لا يدرى كيف سيحاسب الله من إتخذوه و أمه إلهين من دونه فما بالنا نرى البعض يطلق العنان للسانه ليحاسب غيره من البشر و يتوعدهم بجهنم يوم الحساب. و قد وضع سيدنا عيسى إحتمال غفران الله لهم فقال و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم و لم ينفى الرحمن هذا الإحتمال بل قال { هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } و ذلك لأن غاية الإيمان هى الصدق مع النفس و أهم شئ أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه فى فكره و معتقده.